رفع العقوبات الأميركية عن سورية: من العزلة الدولية إلى إعادة التموضع الإقليمي

- مقدمة
في سياق متغيرات إقليمية ودولية متسارعة، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال زيارته إلى المنطقة التي بدأت في 13 أيار/ مايو 2025، أنه سوف يرفع العقوبات المفروضة على سورية. وقد جاء هذا الإعلان بعد مطالبات ودعوات مباشرة من وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ومن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى إعادة النظر في سياسة العقوبات المفروضة على سورية، وكانت قطر والإمارات والأردن قد ساهمت بدور داعم في هذا السياق، من خلال اتصالات إقليمية مكثفة.
أُعلن القرار رسميًا خلال منتدى الاستثمار السعودي–الأميركي المنعقد في الرياض، حيث وصف الرئيس الأميركي العقوبات بأنها “وحشية ومعيقة”، معتبرًا أن استمرارها لم يعد مبررًا، وأنه “قد حان الوقت لتنهض سورية”، في إشارة إلى رغبة أميركا في إتاحة المجال أمام إعادة بناء الاقتصاد السوري، وتسهيل انخراطها في شبكات التعاون الإقليمي والدولي، ومنح الشعب السوري فرصة للنمو والتطور.
لكن هذا الإعلان لم يكن مفاجئًا بالكامل، إذ سبقه بضع خطوات تمهيدية اتخذتها الإدارة الأميركية في مطلع عام 2025، حيث ألغت مكافأة كانت مرصودة للإدلاء بمعلومات عن الرئيس الشرع (أبو محمد الجولاني)، وأصدرت ترخيصًا مؤقتًا يسمح ببعض التعاملات في المجالات الإنسانية وقطاع الطاقة، وهو ما شكّل مؤشّرًا مبكرًا على توجه أميركي نحو تليين نظام العقوبات، وكذلك قامت بريطانيا والاتحاد الأوروبي بتعليق بعض العقوبات أو رفعها جزئيًا.
- العقوبات الأميركية على سورية
تخضع سورية منذ عقود لعقوبات متعددة الأطراف، فرضتها جهات دولية وأممية وأحادية، ضمن سياقات مختلفة تراوحت بين التصنيف السياسي والتهم بدعم الإرهاب وجرائم الحرب، وقد بدأت أولى هذه العقوبات عام 1979، حين أُدرجت سورية على القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، وهو ما ترتب عليه فرض قيود مشددة على بيع الأسلحة والمعونات والتعاملات المالية. وفي عام 2004، وُسّعت العقوبات لتشمل مجالات اقتصادية وتقنية وغيرها، وجرى تقليص التبادل التجاري، ومنع تصدير عدد من التقنيات الحيوية إلى سورية، ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، تصاعدت حدة العقوبات الأميركية والغربية، لتشمل تجميد أصول الحكومة السورية، وحظر الاستثمارات، ووقف استيراد النفط السوري، إلى جانب فرض قيود على المصارف وقطاعات الطيران والطاقة والدفاع وغيرها.
والعقوبات الأميركية تُعدّ الأكثر شمولًا وتعقيدًا، وتنقسم إلى فئتين رئيسيتين:
- العقوبات الرئاسية:
وتستند إلى صلاحيات الرئيس الأميركي، بموجب قوانين “حالة الطوارئ الوطنية”، إذ صدرت ثمانية أوامر تنفيذية بين عامي 2004 و2019، من أبرزها الأمران التنفيذيان 13582 و13894، واستهدفت تلك الأوامر قطاعات حيوية وشخصيات بارزة، وللرئيس صلاحية إلغاء هذه العقوبات أو تعليقها من دون الرجوع إلى الكونغرس، لكونها تقع ضمن صلاحياته التنفيذية. ويُتوقع أن يلجأ ترامب إلى هذه الصلاحيات لتعليق عدد من تلك الأوامر، ضمن سياسة إعادة التقييم الشاملة للوضع السوري.
- العقوبات التشريعية (الكونغرس):
مثل “قانون قيصر” لعام 2019، وهو يفرض عقوبات على قطاعات حيوية في سورية مثل الطاقة، الدفاع، الطيران، المصرف المركزي، وإعادة الإعمار، ولا يمكن للرئيس إلغاء هذه العقوبات منفردًا، بل يتطلب الأمر موافقة الكونغرس، ومع ذلك يُتيح القانون إمكانية “التعليق المؤقت” لمدة ستة أشهر، قابلة للتمديد 120 يومًا، بموجب المادة 401، شريطة تقديم الإدارة الأميركية مبررات مكتوبة توضح تغيّر المعطيات السياسية، حيث تضمّنت التشريعات الأميركية المتعلقة بالعقوبات، ومنها “قيصر”، بنودًا تمنح الرئيس سلطة إصدار استثناءات استنادًا إلى “متطلبات الأمن القومي”، وهو ما يُتوقع أن يستند إليه ترامب لتبرير تعليق العقوبات على عدد من القطاعات مثل الإنشاءات والطاقة، بحجة أن دعم جهود إعادة الإعمار يصب في مصلحة الاستقرار الإقليمي، ويعزز الأهداف الإستراتيجية لواشنطن في سورية.
وبعض العقوبات المستندة إلى قوانين الطوارئ تُجدّد سنويًا، وإذا امتنع الرئيس عن تجديدها، تُعلّق تلقائيًا بعد مرور ستة أشهر، وعلى الرغم من أن القانون يبقى ساريًا من الناحية الشكلية، فإن عدم تفعيل آلياته التنفيذية يُخفّف من أثره عمليًا.
ويُعدّ تصنيف سورية ضمن “الدول الراعية للإرهاب” منذ عام 1979 أحد أبرز العوائق أمام تطبيع العلاقات الدولية معها، ويترتب على هذا التصنيف قيود تلقائية على المساعدات، والتعاون المالي، والتسليح، وبموجب القانون الأميركي، فإن إزالة اسم دولة من هذه القائمة يتطلب إخطارًا رسميًا من البيت الأبيض إلى الكونغرس قبل 45 يومًا، مرفقًا بتقرير يُثبت أن الدولة المعنية لم تعد تدعم الإرهاب، وتشير المعطيات إلى أن الإدارة الأميركية تعمل على تفعيل هذه الآلية، خصوصًا بعد سقوط النظام السابق، حيث من المرجّح أن يتم التمييز بين “سورية الجديدة” و”النظام القديم” في السردية الرسمية.
وتُشكّل مسألة إدراج “هيئة تحرير الشام” كجسم عسكري وبعض قادة فصائل الجيش الوطني على قوائم المعاقبين تحديًا آخر أمام سورية الجديدة، فعلى الرغم من تفكك الهيئة رسميًا في كانون الثاني/ يناير 2025، وتولي عدد من قادتها مناصب حكومية، فإن تصنيفها لا يزال قائمًا قانونيًا، ما يضع الإدارة الأميركية أمام تناقضات حادة بين القانون والسياسة، ولمواجهة ذلك، اعتمدت وزارة الخزانة الأميركية على إصدار “تراخيص خاصة وعامة”، تسمح بالتعامل مع المؤسسات الحكومية السورية الجديدة، مع تبرير بأن الهيئة لم تعد قائمة ككيان مستقل، ومن المتوقع أن تُقدِم وزارة الخارجية الأميركية لاحقًا على شطب الهيئة من قائمة الإرهاب رسميًا، ولا سيما إذا قدمت الحكومة السورية ضمانات أمنية وتعاونًا ضد الجماعات المتطرفة.
ثمة اتجاهان في الإدارية الأميركية، مؤيد لرفع العقوبات ومعارض له، وإنما جاء رفعها نتيجة جهود السعودية وتركيا وقطر بضمان تحقق سلوكيات إيجابية من قبل الحكومة السورية الانتقالية، هذا قد يُمهّد الطريق لتعديل بعض البنود القانونية، أو تمرير استثناءات دائمة مستقبلًا. ولذلك من المتوقع أن تتم الأمور عبر إلغاء الأوامر التنفيذية التي فُرضت بموجبها العقوبات الاقتصادية الرئاسية، وإصدار تراخيص خاصة لتسهيل التحويلات المالية، مع الحفاظ على بعض الفقرات التي تمنع رفع العقوبات عن الأفراد والكيانات المتهمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وتعليق تطبيق العقوبات المرتبطة بحالة الطوارئ في حال عدم تجديدها. وفي مرحلة لاحقة يأتي التفاوض مع الكونغرس لرفع العقوبات المنصوص عليها في “قانون قيصر”، بناءً على تحسّن الوضع السياسي في سورية.
ويمكن فهم القرار بوصفه جزءًا من صفقة إقليمية–دولية أوسع، تتضمن إعادة هيكلة العلاقة بين أميركا وشركائها الإقليميين، تقوم على مبدأ “رفع العقوبات، مقابل تعميق الشراكات الاقتصادية والأمنية”. ويعكس القرار محاولة أميركية لإعادة تموضعها في المشهد السوري، وفقًا لمقاربات جديدة تأخذ بعين الاعتبار التغيرات على الأرض، وتستهدف إعادة تشكيل النظام السوري لما بعد مرحلة بشار الأسد، عبر إقصاء النفوذ الإيراني والحد من الروسي، وتوفير بيئة سياسية تضمن المصالح الغربية والإقليمية، ومن ثم، لا يمكن فصل هذا القرار عن مجمل التحولات الجيوسياسية الجارية في المنطقة، بل يجب قراءته كجزء من مسعى أميركي لإعادة هندسة التوازنات السورية–الإقليمية، استنادًا إلى تحالفات وشروط جديدة تُعيد توزيع الأدوار والنفوذ، وترسم ملامح المرحلة الجديدة في سورية، وتصريح ترامب المفاجئ هو وعد، والقرار بعد عودته إلى واشنطن، ولا نعلم مدى اتساع العقوبات التي قد يشملها قراره، وإن كان الإلغاء سيتم على مراحل خطوة بخطوة، أي مقابل خطوات من السلطة الجديدة في دمشق.
- التحديات المحتملة أمام تنفيذ قرار رفع العقوبات عن سورية
بالرغم من أن قرار رفع العقوبات عن سورية يُعَدّ تحولًا استراتيجيًا في السياسة الأميركية، فإن تنفيذه يواجه جملة من التحديات التي قد تُقوّض آثاره أو تُحدّ من استدامته، ومنها:
– تُعبّر بعض التيارات داخل المؤسسات الأميركية، إضافة إلى دوائر صنع القرار في إسرائيل، عن شكوك حقيقية بشأن خلفية بعض الشخصيات في الحكومة السورية الانتقالية، على أنها تمثل واجهة سياسية لتيارات أيديولوجية غير منضبطة، أو قد تكون امتدادًا لقوى متطرفة أعادت هيكلتها في إطار السلطة الجديدة، هذه المخاوف تُشكّل تهديدًا مباشرًا لإجماع سياسي محتمل داخل واشنطن بشأن استمرارية العقوبات.
– التحديات المرتبطة بسلوك الحكومة الانتقالية، حيث إنّ أي مؤشرات سلبية تصدر عن الحكومة، على مستوى إدارة الملف الأمني أو السياسي، قد تُعيد تفعيل العقوبات في وقت سريع. فمن ذلك، عدم اتخاذ خطوات عملية نحو الإصلاح السياسي، مثل البدء بعملية دستورية شاملة، وتنظيم انتخابات ذات مصداقية، أو تكرار أحداث كالتي جرت في الساحل أو في جرمانا وأشرفية صحنايا قرب دمشق.
– غياب إشراك حقيقي للمكوّنات المجتمعية الأساسية في سورية، لا سيّما الكرد، والعلويين، والمسيحيين، والدروز، قد يُفسّر كمؤشر على ضعف المشاركة السياسية، في حال برزت ممارسات إقصائية أو ميول سلطوية، فإن ذلك قد يقوّض أسس الشرعية السياسية التي بُني عليها قرار رفع العقوبات، ويفتح المجال أمام أطراف دولية للمطالبة بإعادة فرضها.
– رفع العقوبات، وإن كان خطوة ضرورية، ليس كافيًا بذاته لتجاوز التحديات الاقتصادية والسياسية، ذلك أن حالة الانهيار الاقتصادي التي شهدتها البلاد خلال أكثر من عقد تتطلب موارد هائلة، وإصلاحات بنيوية، وتوافقًا وطنيًا غير مسبوق، وأنّ القرار يضع عبئًا ثقيلًا على الدولة والمجتمع، ويُحمّلهما مسؤولية تاريخية في تحويل الفرصة السياسية إلى مسار تعافٍ فعلي، فإزالة العوائق القانونية أمام انخراط سورية في الاقتصاد الدولي أشبه ما تكون بإزالة الحواجز من الطريق؛ لكن الطريق ذاته يحتاج إلى تعبيد سياسي ومؤسساتي يضمن استدامة السير فيه، والاستفادة القصوى من هذا التحول تتطلب بناء عقد سياسي واجتماعي جديد، يعيد إنتاج الدولة على أسس تمثيلية وعدلية، ويرسّخ سورية بوصفها فاعلًا شريكًا في محيطها الإقليمي والدولي، لا مجرد ساحة نزاع.
4- الآثار المتوقعة لقرار رفع العقوبات:
يُمثّل قرار رفع العقوبات تحوّلًا بنيويًا في موقع سورية في النظامين الإقليمي والدولي، ويحمل أبعادًا اقتصادية وسياسية ذات تأثير متداخل، وهناك عقوبات تحمل أهمية حيوية بالنسبة للتعافي في سورية، حتى لو بقيت بعض العقوبات على بعض المؤسسات والأفراد:
- رفع العقوبات عن القطاع المالي والمصرفي يربط سورية مرة أخرى بالعالم، بما يعني إمكانية إجراء العمليات النقدية والمالية والتحويلات والكفالات والقروض وغيرها.
- رفع العقوبات عن الاستثمارات يعني ظهور أثر إيجابي على الاستثمارات السورية أولًا، والعربية والتركية ثانيًا، وعلى بقية دول العالم ثالثًا، ولا سيما في القطاعات الحيوية مثل الطاقة، الكهرباء، البناء، الاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات، ويُتوقع عودة الشركات الأجنبية –التي غادرت سورية في مرحلة الحصار– إلى ممارسة أنشطتها، مما يُنعش سوق العمل ويزيد من الإنتاج المحلي.
- رفع العقوبات عن المساعدات من المنظمات الأممية والحكومية سيكون له أثر إيجابي على إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي وخلق فرص العمل وتحسين الخدمات ومستوى المعيشة، وبدء تكوين تراكم داخلي.
- إعادة تنشيط الاقتصاد الوطني تعيد فتح المجال أمام الحكومة السورية للاستفادة من أموالها المجمدة في الخارج، مما يُعزّز قدرتها على تمويل مشاريع البنية التحتية، والخدمات الأساسية، وبرامج إعادة الإعمار.
- تعزيز الثقة بالعملة الوطنية، فرفع العقوبات سيؤدي على الأرجح إلى تحسن تدريجي في قيمة الليرة السورية، نتيجة تدفق العملات الأجنبية وزيادة المعروض النقدي، هذا التحسّن في سعر الصرف سينعكس إيجابًا على القوة الشرائية للمواطنين، ويُخفف من معدلات التضخم.
- تنشيط موقع سورية الجغرافي، فمن المتوقع أن تستعيد سورية دورها في حركة الترانزيت الإقليمي، عبر إعادة تشغيل معابرها الحدودية وموانئها البحرية، لا سيما في ظل تزايد التبادل التجاري بين دول الخليج وتركيا وأوروبا، وفتح خطوط طيران جديدة.
- تطبيع العلاقات مع المجتمع الدولي، إذ يمثل رفع العقوبات اعترافًا أميركيًا غير مباشر بشرعية الحكومة الانتقالية الجديدة، ما يمنحها القدرة القانونية للتفاوض على اتفاقيات اقتصادية وتجارية ومالية، دون أن تكون هذه الاتفاقات معرضة للتجميد أو النقض بفعل العقوبات السابقة، كما يُمهّد الطريق أمام انخراطها في المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهو ما يفتح الباب أمام دعم تنموي طويل الأمد.
- إعادة توجيه التموضع الجيوسياسي لسورية، فقرار رفع العقوبات يتقاطع مع رؤية أميركية–عربية لإعادة توجيه سورية نحو المحور العربي–الأميركي، وقد لعبت دول مثل السعودية وقطر وتركيا والإمارات دورًا محوريًا في هذا التحول، من خلال تعهدها بدعم مسار الإصلاح وضمان بيئة سياسية مستقرة.
- التكامل في النظام الإقليمي، فرفع العقوبات يعكس مسعًى أوسع لإعادة بناء منظومة إقليمية مستقرة، تكون فيها سورية الجديدة شريكًا فعّالًا لا مصدرًا للفوضى، ومن هنا، فإن هذا القرار يُعيد رسم المشهد الإقليمي بطريقةٍ تُعزز من دور الفاعلين الإقليميين في بلورة مستقبل سورية.
يُعتبر قرار رفع العقوبات عن سورية لحظة تأسيسية في التحوّل الجيوسياسي الذي تشهده المنطقة، ويُشكّل أحد تجليات إعادة هندسة النظام الإقليمي بعد سقوط النظام السابق. ومع أن نجاح هذا المسار يظل مرهونًا بسلوك الحكومة الجديدة، وقدرتها على استيعاب التنوع المجتمعي وتطبيق إصلاحات فعلية، فإن البيئة السياسية الإقليمية تبدو مواتية لإعادة دمج سورية في محيطها، ضمن معادلة جديدة من التوازنات والمصالح المتبادلة.
- السيناريوهات المتوقعة:
يفتح رفع العقوبات الأميركية عن سورية البابَ أمام مجموعة من السيناريوهات المحتملة تراوح بين التقدّم التدريجي في مسار التعافي، أو الارتداد نحو الفشل، في حال تعثر شروط التحول السياسي والمؤسساتي. وبناءً على ذلك، يمكن تحليل السيناريوهات المتوقعة ضمن ثلاثة مستويات متداخلة: الإصلاح السياسي، الانفتاح الاقتصادي، واستدامة القرار الدولي.
السيناريو الأول: الانتقال المنضبط نحو التعافي الشامل
يستند هذا السيناريو إلى فرضية أن الحكومة السورية الانتقالية ستلتزم بتعهّداتها السياسية والإصلاحية، وتتبنى خطوات تدريجية ملموسة على صعيدَي الحكم الرشيد والانفتاح السياسي، والبدء بعملية دستورية تُراعي التنوع السوري، وتنظيم انتخابات، وتفعيل آليات الشفافية والمساءلة، وإشراك المكونات السورية كافة ضمن أطر الحكم والإدارة.
ضمن هذا السيناريو، يُتوقع أن تُكافأ الحكومة السورية بمزيدٍ من الانفتاح الدولي، وتحويل التعليق المؤقت للعقوبات إلى رفع دائم لها، وسيكون التمويل الدولي متاحًا عبر المؤسسات المالية الكبرى، مع دخول تدريجي لرؤوس الأموال الإقليمية، ولا سيما الخليجية، في مشاريع إعادة الإعمار والبنية التحتية، وهذا السيناريو، وإن كان الأكثر تفاؤلًا، يتطلّب قدرًا عاليًا من الالتزام السياسي، وكفاءة مؤسساتية للحكومة.
السيناريو الثاني: الانفتاح الاقتصادي المشروط بإصلاح سياسي محدود
يرجّح هذا السيناريو أن تتخذ الحكومة السورية خطوات اقتصادية سريعة، لتسهيل جذب الاستثمارات وتحقيق إنعاش جزئي، من دون التقدّم الموازي في ملفات الإصلاح السياسي والمؤسساتي. وقد يتجسّد ذلك في تحرير القطاع المالي والمصرفي، ومنح تسهيلات للشركات والمستثمرين، واستئناف العلاقات التجارية مع دول الجوار.
غير أن ضعف الإرادة السياسية في إشراك كلّ مكونات الشعب السوري، أو استمرار بعض ممارسات الإقصاء والتهميش، قد يُبقي على قدر من التردّد الدولي، ويُبقي العقوبات قائمة جزئيًا. وفي هذا السيناريو، قد تتحول سورية إلى ساحة انفتاح اقتصادي غير مستقر، مع غياب إصلاح سياسي حقيقي.
السيناريو الثالث: تعثّر الإصلاح وعودة الضغوط الدولية
يرتكز هذا السيناريو على احتمال فشل الحكومة السورية الانتقالية في تلبية الشروط الغربية، بسبب انقسامات داخلية، أو هيمنة أطراف لا تؤمن بالتحوّل الديمقراطي، أو عودة نفوذ شخصيات تعارض هذا المسار. وإذا حدث ذلك، فقد يؤدّي إلى إعادة تفعيل العقوبات المعلقة، وإعادة طرح سورية على أجندة العزلة الدولية، وتقويض ما تحقّق من مكاسب آنية، ومن ثم، قد تتصاعد التوترات الأمنية، وتُستأنف الضغوط السياسية والاقتصادية. وإذا ترافق هذا السيناريو مع غياب مشروع إقليمي داعم، فإن فرص إعادة الإعمار ستتقلص، وتستعيد الأزمة طابعها المزمن والمعقد.
وتُخطّط الإدارة الأميركية والكونغرس لرصد أداء الحكومة السورية، خلال الفترة القادمة، وتُعدّ هذه المرحلة بمثابة “فترة اختبار”، لتحديد مدى التزام الحكومة السورية بتعهّداتها، وعليه، فإن أيّ إخفاق في هذه الفترة سيؤدي إلى إعادة تفعيل بعض العقوبات، وقد تُعتمد تعديلات قانونية تسمح برفعها نهائيًا، في حال تحقق تقدم ملموس. وفي المقابل، ستبقى العقوبات الأممية بحاجة إلى مسار دبلوماسي مستقل داخل مجلس الأمن، وهو ما يُعقّد عملية رفعها على المدى القصير.
يشكّل قرار رفع العقوبات الأميركية عن سورية منعطفًا حاسمًا في مسار التعاطي الدولي مع الملف السوري، ويعكس تحوّلًا في الرؤية الجيوسياسية للولايات المتحدة وشركائها تجاه سورية، بعد سنوات من العزلة والتهميش، وبهذا المعنى، لا يمكن عدّ القرار مجرد إجراء قانوني أو اقتصادي، بل هو خطوة ذات أبعاد استراتيجية تعكس توجهًا نحو إعادة دمج سورية ضمن المنظومة الإقليمية والدولية، ضمن شروط ومسارات جديدة.
ومع ذلك، فإن قيمة هذا التحول لا تتحقق تلقائيًا، وإنما تبقى مرهونة بقدرة الحكومة السورية الانتقالية على إثبات الجدية في تنفيذ التزاماتها الداخلية، وعلى رأسها إطلاق عملية سياسية شاملة، وصياغة دستور جديد قائم على التعددية والحقوق، وإجراء انتخابات ذات مصداقية، وإشراك كافة المكونات الوطنية دون إقصاء. وإن بناء الثقة بين الدولة والمجتمع يتطلّب إصلاحًا مؤسساتيًا، يضمن الشفافية والمساءلة، ويقطع مع ممارسات الحكم الأمني والانغلاق السياسي التي ساهمت في تفجير الصراع أصلًا، وهذا ما سيعزز ثقة الغرب بها.
اقتصاديًا، يمثل رفع العقوبات شرطًا أساسيًا لتحفيز التعافي، لكنه لا يشكّل حلًا شاملًا بحد ذاته. فالتحديات التي تواجه سورية تتجاوز آثار الحصار إلى مشكلات بنيوية تراكمت على مدى أكثر من عقد، تشمل انهيار البنية التحتية، وارتفاع مستويات البطالة والفقر، وتآكل الخدمات العامة. وبالتالي، فإن الانتقال إلى مرحلة الإعمار والتنمية يتطلب تعبئة موارد ضخمة، ووضع استراتيجيات طويلة الأمد، وخلق بيئة سياسية ومؤسساتية جاذبة للاستثمار.
في هذا السياق، تُعدّ مسؤولية الحكومة السورية مضاعفة؛ فهي مطالبة باستثمار هذه اللحظة السياسية، لإعادة تأسيس الدولة الوطنية على أسس جديدة، وليس فقط استيعاب آثار رفع العقوبات، ويتطلب ذلك شراكة حقيقية مع المجتمع، وتعاونًا منفتحًا مع الأطراف الإقليمية والدولية، وتقديم ضمانات سياسية وأمنية تدعم الاستقرار وتُحفّز الانخراط الدولي.
ومن ثمّ، فإن نجاح المرحلة المقبلة يتوقف على مدى قدرة القيادة الجديدة على توظيف هذا التحوّل السياسي لإطلاق عملية بناء داخلي جادة، تُفضي إلى إعادة الاعتبار للدولة ومؤسساتها، واستعادة موقع سورية كفاعل مسؤول في النظامَين الإقليمي والدولي، لا كملف أمني مؤجل في توازنات ما بعد الحرب.