تحديات بناء الجيش الوطني السوري وتوحيده: قراءة في حلّ اللواء الثامن ببصرى الشام

شكّل قرار حلّ “اللواء الثامن” في بصرى الشام، في نيسان/ أبريل 2025، حدثًا محوريًا في سياق ما بعد سقوط النظام السوري، لا سيّما أن هذا التشكيل العسكري كان أحد أبرز مفرزات التسوية الروسية في الجنوب السوري منذ عام 2018، وكان اللواء قد لعب دورًا مركزيًا في ضبط موازين القوى داخل محافظة درعا، بين المعارضة والنظام، ثم بين موسكو ودمشق، وصولًا إلى تشكيل “غرفة عمليات الجنوب”، والمشاركة في دخول العاصمة مع سقوط النظام، غير أن قرار الحلّ لم يكن معزولًا عن التحوّلات البنيوية في سورية، بل جاء تجسيدًا للتغيير في مرحلة انتقالية حساسة، تحاول فيها الدولة الجديدة توحيد المؤسسات العسكرية، واستعادة السيادة على الأرض، وإرساء مقومات بناء جيش وطني موحد، يضمن استقرارًا طويل الأمد، ويحول دون عودة الفوضى أو هيمنة الأذرع المسلحة الخارجة عن الدولة.
- الخلفية التنظيمية والتاريخية للواء الثامن
تشكّل “اللواء الثامن” في تموز/ يوليو 2018، عقب اتفاق تسويةٍ رعته روسيا بين فصائل المعارضة والنظام السوري[1]، إثر حملة عسكرية شنّها النظام بدعم روسي على محافظة درعا، وتكوّن اللواء من مقاتلين سابقين في “قوات شباب السنّة”، بقيادة أحمد العودة، وكان ضمن الفيلق الخامس الذي أدارته روسيا. في عام 2021، احتفظ اللواء باستقلالية نسبية، رغم التبعية الشكلية، إذ لم يخضع لإمرة النظام بشكل مباشر، بل مارس دورًا مزدوجًا: جهة محلية مسلحة بقدرات تنظيمية، وأداة نفوذ روسي في الجنوب السوري. وأسهم وجوده في تأمين مناطق شاسعة من ريف درعا الشرقي، وكانت له أدوار في التصدي لخلايا تنظيم (داعش)، إضافة إلى انخراطه في عمليات تفاوض متقدمة مع الروس، مما أكسبه نفوذًا فاق معظم التشكيلات الميدانية التي نشأت بعد 2018.
طبيعة اللواء الثامن الهجينة (فصيل معارض سابق ضمن إطار شبه رسمي تابع للفيلق الخامس) مكّنته من أن يكون قوة وسيطة، تحافظ على أمن محلي نسبي، في الوقت الذي تجنّب فيه الصدام الكامل مع الدولة، لكنه احتفظ في الوقت ذاته باستقلال قرار ميداني في مناطقه، مما جعله محطّ مراقبة مستمرة من قبل الأجهزة الأمنية والعسكرية لنظام الأسد.
وفي أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، انطلقت معركة “ردع العدوان”، وأسفرت عن تشكيل “غرفة عمليات الجنوب” بقيادة أحمد العودة. وفي الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، دخلت قوات اللواء الثامن إلى دمشق، لتكون أول قوة عسكرية تفرض وجودها في العاصمة بعد انهيار النظام، وبذلك حاز اللواءُ رمزية باعتباره جزءًا من عملية انتقال السلطة، ومكّنه ذلك من تسجيل حضور إعلامي وشعبي.
وعلى الرغم من هذا الإنجاز، لم يُحَلّ اللواء الثامن فورًا، بل ظلّ يتمسك بمناطقه في درعا الشرقية، مما عكس غموضًا في موقعه، بين كونه جزءًا من الدولة الجديدة أو فاعلًا ميدانيًا له مصالحه الخاصة، بدلًا من المبادرة الفورية إلى تسليم مناطقه أو الانخراط الكامل في المؤسسة العسكرية الجديدة، بدأ اللواء بالتفاوض من موقع قوة، وهو ما أثار قلق الأطراف الفاعلة في الحكومة الانتقالية. وتجلى هذا التردد في احتكاكات أمنية واتهامات داخلية، بعضها متعلق بملفات فساد داخل اللواء، وبعضها بمحاولات لاستمرار إدارة مناطق نفوذ عبر الولاءات المحلية.
- التفكيك – القرار – والأبعاد المباشرة
شهدت مدينة بصرى الشام في ريف درعا الشرقي، في نيسان/ أبريل 2025، سلسلة تطورات أمنية وعسكرية معقّدة، بدأت بمحاولة اغتيال استهدفت القيادي في وزارة الدفاع، بلال الدروبي، مساء العاشر من الشهر، حيث أطلق عليه مسلّحون ملثمون الرصاص، فأصيب ونُقل للعلاج، ثم توفي متأثرًا بجراحه. وشكّلت هذه الحادثة الشرارة الأولى لتحولات متسارعة في المشهد الأمني، إذ أعقبها مباشرة انتشار كثيف لوحدات من الأمن العام في المنطقة، تحت مبرر ملاحقة الفاعلين وفرض الاستقرار، تزامنًا مع إصدار إدارة الأمن العام تعليمات بضرورة تسليم عناصر الفيلق الخامس واللواء الثامن السلاح، في ريف درعا الشرقي، وخاصة في بصرى الشام، حيث يتركّز ثقل اللواء الأمني المحلي.
وخلال ساعات الصباح الباكر من 11 نيسان/ أبريل 2025، توجّهت أرتال أمنية مدعومة بعشرات الآليات إلى محيط المدينة، في وقتٍ كانت فيه المفاوضات قائمة مع وجهاء محليين لتسليم المتورطين في عملية الاغتيال. وتزامن ذلك مع دعوات من المساجد لأفراد اللواء الثامن لتسليم أنفسهم وسلاحهم، وسط مؤشرات على تفكك البنية التنظيمية للفصيل، نتيجة اتهامه بتحمّل المسؤولية المباشرة عن حادثة الاغتيال، كونه الفصيل الوحيد الذي تم دمجه مؤخرًا ضمن مؤسسات الدولة، بصفة أمن عام.
في اليوم ذاته، أُعلن رسميًا عن توجّه الدولة نحو حل فصيل اللواء الثامن، بقيادة أحمد العودة، نتيجة انهيار التفاهمات السابقة التي كانت قد أرست اندماج الفصيل ضمن المؤسسات الرسمية، وأكدت مصادر محلية اعتقال عناصر من الفيلق الخامس في بلدة الجيزة، مع استمرار الحصار المفروض على بصرى الشام من كافة الاتجاهات، وترافقت هذه الإجراءات مع تظاهرات شعبية طالبت بخروج الفصيل من المدينة، ورفضت تشييع جثمان بلال الدروبي، قبل محاسبة المسؤولين عن مقتله، وخاصة أن الفصيل قام في الفترة الأخيرة ببعض الأعمال التي أثارت الأهالي ضده.
وعلى الرغم من إعلان اتفاق مبدئي قضى بتسليم أربعة من المطلوبين، عاودت التوترات للظهور إثر تعثر التنفيذ الكامل للاتفاق، ما استدعى إرسال أرتال جديدة إلى بلدة الصورة المجاورة. وفي السياق ذاته، أعلنت الجهات الرسمية فرض حظر تجوال في بصرى الشام، وتعليق الدوام في مدارس المدينة، ضمن إجراءات لضبط الأمن.
استكملت إدارة الأمن العام، خلال الأيام التالية، تنفيذ عمليات دهم واعتقال استهدفت قيادات وعناصر من اللواء الثامن، تزامنًا مع فتح أماكن احتجاز سابقة يديرها الفصيل، وتحويل المعتقلين إلى مدينة درعا لمراجعة ملفاتهم. وبشكل متوازٍ، تسلّمت وزارة الدفاع كافة المقرات والمقدرات العسكرية التابعة للفصيل، حتى الأسلحة الثقيلة، وأُسندت مهمة الإشراف على عملية التسليم للنقيب محمد القادري[2].
مع انتهاء هذه المرحلة، أعلنت السلطات افتتاح مركز أمني رسمي (ناحية ومخفر) في المدينة، بحضور مسؤولين رسميين على مستوى المحافظة، في خطوةٍ تؤشر إلى محاولة ترسيخ الوجود المؤسساتي وتأكيد انتقال السلطة الأمنية من الفصائل المحلية إلى الدولة. وأُكد بقاء قادة اللواء الثامن، ومنهم أحمد العودة، داخل المدينة، بالرغم من الشائعات حول مغادرتهم البلاد، في حين بدأت تُرفع دعاوى قضائية من قبل الأهالي بحق عدد من هؤلاء القادة.
وفي ختام هذه التطورات، عُقد اجتماع عسكري رسمي في بصرى الشام، في العشرين من نيسان/ أبريل، جمع ضباطًا من وزارة الدفاع، من بينهم قائد الفرقة 40، العقيد بنيان الحريري، وخلص الاجتماع إلى ترتيبات تتعلق بتنظيم الوضع العسكري في المدينة، وتسجيل عناصر جديدة في الوزارة، تمهيدًا لانطلاق دورة تدريبية مخصصة للمنتسبين من أبناء المنطقة. ويشير هذا الاجتماع إلى نهاية مرحلة اللواء الثامن وبداية إعادة هيكلة أمنية رسمية تقودها الدولة مباشرة، بما يعكس مسارًا جديدًا لمحاولة ضبط التوازن الأمني في ريف درعا الشرقي.
- التحديات أمام إنهاء الفصائلية وبناء جيش الدولة
لم يكن إعلان حلّ اللواء الثامن قرارًا أمنيًا لضبط الوضع في درعا فحسب، بل يمكن اعتباره خطوة رمزية تؤشر إلى انطلاق مشروع بناء جيش موحد، فالقيادة السورية الجديدة (كما يشير الخطاب الرسمي) لا تقبل بوجود أي فصيل مسلّح خارج الإطار المؤسسي للدولة، بغضّ النظر عن تاريخه أو حجمه أو انتمائه.
هذا التوجه اتسق مع اتفاقات أخرى، أبرزها الاتفاق الذي وقّعه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، في آذار/ مارس 2025، مع قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي، الذي نصّ على انسحاب القوات الكردية من بعض أحياء حلب، والعمل على دمج مؤسسات الإدارة الذاتية في أجهزة الدولة، وهناك أيضًا مفاوضات مماثلة مع مجموعات السويداء المسلّحة لتسوية أوضاعها.
تفكيك “اللواء الثامن” هو إذن جزء من استراتيجية أمنية شاملة، تهدف إلى إعادة تشكيل القطاع العسكري، عبر برامج دمج قوى الأمر الواقع ضمن منظومة الجيش الوطني، وهو ما يتطلب إعادة تعريف العقيدة العسكرية السورية لتصبح مؤسسة وطنية جامعة، غير مؤدلجة أو تابعة لأي فصيل أو مرجعية خارجية.
ويمثل دمج “اللواء الثامن” في مؤسسات الدولة العسكرية اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة السورية الجديدة على إدارة الانتقال من الفوضى المسلحة إلى النظام المؤسسي، فالحالة السورية ليست مجرد دمج مقاتلين ضمن هياكل رسمية، بل هي عملية معقدة تتداخل فيها الاعتبارات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مع ظهور أنماط سيطرة محلية بديلة، بعضها قائم على الولاءات المناطقية أو الفصائلية.
تتطلب هذه العملية رؤية استراتيجية واضحة على ثلاثة مستويات:
- إعادة التأهيل العسكري والنفسي: فمقاتلو اللواء، رغم خبراتهم القتالية، يحملون خلفيات متباينة من حيث الانضباط والعقيدة والانتماء. ولضمان دمجهم الفعلي، يجب إخضاعهم لدورات مهنية متقدمة تتضمن تأهيلًا إداريًا وأمنيًا، إضافة إلى تعزيز قيم الانضباط العسكري والولاء الوطني، بهدف نقلهم من منطق “المقاتل” إلى منطق “العسكري النظامي”.
- فرز وظيفي عادل وفعّال: لا يمكن دمج كلّ المقاتلين في الجيش، فبعضهم قد يكون أكثر ملاءمة لوظائف شرطية أو مدنية، لذلك يجب أن تتبنى وزارة الدفاع -بالتعاون مع وزارات أخرى- خطة توزيع دقيقة تقوم على معايير الاحتراف والكفاءة، وتراعي أيضًا الأبعاد النفسية والاقتصادية للمقاتلين، كإدماجهم في برامج عمل مؤقتة أو مدنية، وتقديم حوافز مناسبة لتشجيعهم على الانخراط الإيجابي في الحياة العامة.
- ترسيخ العقيدة الوطنية الجامعة: تعدّ العقيدة العسكرية الموحدة القائمة على الولاء للدولة، وليس للحزب أو الطائفة أو الجماعة، من أبرز التحديات أمام الدولة الجديدة، فالتجارب السابقة أظهرت أن الجيوش التي بُنيت على أسس طائفية أو عقائدية سرعان ما أصبحت أدوات قمع أو انقسام. لذلك، ينبغي أن يترافق دمج الفصائل مع صياغة “ميثاق عسكري وطني”، يتبناه جميع المنتسبين إلى الجيش، ويُرسخ مبادئ احترام الدستور، والتعددية، وحقوق الإنسان.
وتنبغي الإشارة إلى أن هذه التحديات لا تتوقف عند المسألة التنظيمية، بل تشمل أيضًا البيئة السياسية والمجتمعية، فبعض شرائح المجتمع المحلي قد تنظر بعين الريبة إلى عودة سيطرة الدولة، لا سيما إذا رافق ذلك سلوك أمني قمعي أو تجاهل لمخاوف السكان. وبالتالي، فإن نجاح هذه المرحلة مرتبط بمدى توافر الإرادة السياسية لقيادة المرحلة بشفافية، والانفتاح على مبادرات محلية للمصالحة وإعادة الثقة.
ولا يمكن عزل قرار حلّ “اللواء الثامن” عن التحولات الجيوسياسية في الجنوب السوري، وفي سورية ككل، فعلى امتداد الأعوام من 2018 حتى 2025، شكّل اللواء أحد أدوات النفوذ الروسي في الجنوب، من خلال قدرته على ضبط الحدود، وتحييد التغلغل الإيراني، والتفاوض مع العشائر والجهات المحلية، لكن موسكو بدت أكثر انكفاءً، بعد سقوط نظام الأسد وتبدل التوازنات، فضلًا عن انشغالها بتطورات جيوسياسية أخرى، وظهور قوى محلية جديدة على الساحة.
في المقابل، شكّل تفكيك اللواء انتصارًا للقيادة الجديدة التي سعت لتوحيد الهياكل الأمنية تحت سلطة واحدة، ويمكن اعتبار هذا القرار بمثابة تقليم لأذرع الخارج على الساحة الداخلية، سواء تلك المرتبطة بإيران أو روسيا، حيث إنه أعاد هيبة الدولة المركزية في منطقةٍ اعتبرت لسنوات “نموذجًا للّامركزية المسلحة”.
إقليميًا، يحمل القرار إشارات طمأنة إلى العواصم العربية، مفادها أن دمشق الجديدة تسير بخطى حازمة نحو نزع سلاح الفصائل، وبناء جيش وطني، وهو ما يفتح الباب أمام دعم عربي سياسي واقتصادي كان مشروطًا في السابق بعدم استمرار الفوضى الأمنية.
وفي هذا الإطار، تبرز أيضًا أهمية درعا كنقطة تماسّ جيوسياسية حساسة، فهي تشرف على الحدود مع الأردن، وتعد ممرًا للتهريب والعمليات العابرة. وبتفكيك اللواء، تكون الحكومة السورية المؤقتة قد بعثت برسالة مباشرة إلى عمّان بأن الجنوب السوري لن يكون ساحة نفوذ خارجة عن السيطرة، ما يفتح المجال أمام شراكات أمنية جديدة مع الجوار العربي.
- السيناريوهات المتوقعة
السيناريو الأول: دمج ناجح يقود إلى نموذج وطني جامع
نجاع عملية تفكيك اللواء الثامن، واستثمار الدولة عملية تفكيكه بطريقة مدروسة، فقد تنجح في تحويل هذا الحدث إلى نقطة انطلاق لتطبيقه مع بقية الفصائل ونحو بناء جيش وطني موحد، عابر للانقسامات المناطقية والفصائلية، ويتحقق هذا السيناريو بشرط توافر بيئة سياسية داعمة تُؤمن بفكرة الجيش الوطني الجامع، بعيدًا عن الولاءات الضيقة، ويتطلب الأمر أولًا وجود غطاء سياسي شامل، يضمن الالتزام الحكومي الكامل بهذه الرؤية، ويدعمها بتخصيص موارد مالية وتقنية كافية لتأهيل المقاتلين السابقين وتأمين اندماجهم المؤسسي.
إلى جانب ذلك، سيكون من الضروري فتح قنوات للتعاون مع خبرات دولية متخصصة في برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج (DDR) وإصلاح القطاع الأمني (SSR)، بما يوفر الأسس العلمية والميدانية لدمج المقاتلين ضمن مؤسسة عسكرية حديثة. في هذا النموذج، قد يتحوّل المقاتلون السابقون إلى نواة حقيقية لجيش متعدد الانتماءات، موحّد العقيدة الوطنية، قادر على ضبط الأمن جنوبًا وعلى الحدود وفي المدن الكبرى، بما يضع حدًا للفوضى الأمنية المتراكمة[3].
مع ذلك، يواجه هذا المسار تحديات جدية، أبرزها مقاومة بعض القادة المحليين لفقدان سلطاتهم الذاتية، ونقص الخبرة المؤسساتية اللازمة لإدارة دمج شامل ومعقد. ويضاف إلى ذلك أن القوى الإقليمية المتضررة من وحدة القرار السوري قد تسعى إلى عرقلة المسار عبر دعم حركات تمرد أو افتعال أزمات داخلية. ولتجاوز هذه التحديات، يجب تأسيس هيئة وطنية مستقلة تشرف على الدمج بشفافية كاملة، مدعومة بإطار قانوني يضمن المساواة والفرص لجميع المنتسبين الجدد، مع تعزيز الرقابة الشعبية على العملية لضمان المصداقية والنجاح.
السيناريو الثاني: مقاومة محلية وإعادة تشكّل شبكات التمرد
إذا فشلت الدولة في إدارة هذا الانتقال الحساس، وتفكيك اللواء الثامن كنموذج، فقد تتجه الأمور نحو سيناريو سلبي، قوامه عودة جيوب المقاومة المحلية وشبكات التمرد. ويصبح هذا المسار مرجّحًا إذا اختارت السلطات التعامل مع المقاتلين السابقين بمنطق أمني صرف، باعتبارهم خصومًا محتملين، بدلًا من التعامل معهم كشركاء في بناء المرحلة الجديدة، حيث إن غياب الضمانات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمقاتلين قد يدفعهم إلى إعادة تشكيل خلايا تهريب منظمة أو شبكات مقاومة محلية، ولا سيما مع وجود الفراغ الأمني النسبي أو سوء إدارة مرحلة ما بعد التفكيك.
وستتغذى مشاعر الإقصاء وفقدان الثقة بالسلطة الجديدة من البيئة الاقتصادية الهشّة، حيث البطالة وغياب الفرص المجدية يدفعان الشباب نحو خيارات التطرف أو العنف. ويضاف إلى ذلك أن بعض القوى الإقليمية الساعية لعرقلة توحيد سورية ستجد أرضًا خصبة لإعادة مدّ نفوذها، عبر تسليح هذه الشبكات أو دعمها سياسيًا وإعلاميًا.
للتعامل مع هذه التحديات قبل تفاقمها، يجب أن تتبنى الدولة مسارًا مزدوجًا يجمع بين الانضباط الأمني والمبادرات الاجتماعية، وينبغي العمل على إطلاق برامج مصالحة مجتمعية حقيقية تترافق مع مشاريع تنموية فورية في المناطق المتضررة، تشمل خلق فرص عمل، وتحسين البنى التحتية، وضمان دمج المقاتلين في الحياة المدنية والعسكرية بشكل مدروس. ويجب أيضًا تطوير أدوات استخبارية ناعمة قادرة على كشف التهديدات مبكرًا، من دون اللجوء إلى سياسات القمع الجماعي التي قد تفاقم الأزمة بدلًا من احتوائها.
إذا نجحَت تجربة تفكيك اللواء، فقد تكون نموذجًا لتسوية أوضاع سائر الفصائل المسلحة، ويفترض هذا النموذج تكرار آلية التفاوض – الحل – الدمج، لكن مع مراعاة خصوصيات كل منطقة، بما يضمن توسيع نطاق سيطرة الدولة، من دون الدخول في صدامات واسعة. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو يتطلّب أن تكون الدولة مستعدة، سياسيًا وماليًا، لتقديم حوافز حقيقية، وخطط واقعية، وتطمينات قانونية وأمنية، تمنع التمييز وتُشرك المجتمعات المحلية في عملية إعادة الهيكلة.
إن حلّ اللواء الثامن ليس مجرد تفكيك لتشكيل مسلّح، بل حدث سياسي وأمني يُعبّر عن بداية جديدة في رسم معالم سورية ما بعد الأسد. وقد أظهر هذا القرار قدرة القيادة الانتقالية على فرض منطق الدولة، رغم التحديات الميدانية والولاءات المتداخلة. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر لا يكمن في عملية تفكيك الفصائل فحسب، بل في بناء مؤسسات حقيقية قادرة على احتواء كل السوريين ضمن جيش واحد، يعكس تطلعات الثورة، ويحمي الدولة من التكرار التاريخي للانقلابات والتمزقات. وإذا لم يكن هناك عملٌ على مشروع دمج وطني شامل قائم على الحوار الشفاف، والمشاركة العادلة، والعقيدة الوطنية المستقلة، فإن مشهد الفوضى في دول ما بعد الصراع سيبقى ماثلًا في أذهان السوريين، كتحذير ممّا قد يقع إذا فشلنا في تحويل التفكيك إلى بناء فعلي.
[1] يراوح تعداد اللواء الثامن بين 1700 و2500 مقاتل، وفقًا لعدة مصادر ميدانية. إذ بلغ عدد مقاتليه عند تأسيسه في تموز/ يوليو 2018، بعد التسوية الروسية، نحو 1800 مقاتل، معظمهم من مقاتلي فصيل “قوات شباب السنّة” السابق. ومع توسّع نشاط اللواء الأمني والميداني شرق درعا، بين عامي 2020 و2022، ارتفع التعداد تدريجيًا، ليصل في ذروة قوته التقديرية إلى قرابة 2200 إلى 2500 مقاتل.
[2] في سياق تفكيك “اللواء الثامن” وتسليم مقدراته العسكرية والبشرية إلى وزارة الدفاع السورية، تم تكليف النقيب محمد القادري بمهمة التنسيق المباشر مع الجهات المعنية، لإتمام عملية الانتقال والتسليم بسلاسة. وبحسب المصادر المحلية، أُسندت إليه هذه المهمة لضمان تنفيذ عملية التسليم بشكل منظم ومنسق، مما يشير إلى دوره كضابط ارتباط بين وزارة الدفاع والجهات المعنية بعملية التسليم.
[3]سمير العبد الله ونوار شعبان، إعادة بناء الأمن في سورية: تحديات واستراتيجيات نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج وإصلاح القطاع الأمني، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، نشر في 11 نيسان/ أبريل 2025، شوهد في 22 نيسان/ أبريل 2025، الرابط: https://www.harmoon.org/researches/الأمن-في-سورية/