7 أكتوبر بين روايتين.. “معسكر السلام” ليس بخير

منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، كُتِبت مئات لا بل آلاف المقالات عمّا حدث فجر ذلك اليوم. مقالات تعيد سرد رواية وتفاصيل الحدث، وتحلل أسبابه وحيثياته وتبعاته على المنطقة كلها. كذلك نشرت عشرات الكتب، في إسرائيل وخارجها عما حدث يومها (من بينها كتاب حرب لبوب وودوارد وكتاب إيلان بابيه “تاريخ قصير جدا للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني”).
كذلك، فإنّ بحثًا سريعًا على موقع قاعدة بيانات الأفلام على الإنترنت يظهر 23 فيلمًا وثائقيًا أنتِجت ما بين إسرائيل وأميركا وبعض الدول الأوروبية عن الموضوع أيضًا (ورغم أهمية ما حصل عربيًا لم نرصد سوى بضع وثائقيات لا تتخطى أصابع اليد الواحدة أنتِجت من قبل محطات تلفزيونية ضمن تغطيتها لمرور عام على بدء الحرب على غزة).
من بين الإصدارات التي نُشرت أخيرًا، كتابان يتشابهان جدًا ويختلفان كثيرًا في الوقت نفسه: “أن تكون يهوديًا بعد دمار غزة” و”القلب المفكر”. الأول للكاتب ورئيس التحرير السابق لمجلة “ذا نيو ريبابليك” الأميركية بيتر باينارت، والثاني للروائي والصحافي الإسرائيلي ديفيد غروسمان.
يتشابه الكتابان بأنهما يتناولان انطباعات وآراء شخصية، إذ لا يعالجان الحدث إلا من باب انعكاسه عليهما وعلى المحيطين بهما وعلاقاتهما بالمجتمع الذي ينتمي كلّ إليه. لا يبالغان في سرد تفاصيل ما حصل، أو تكرارها كل بضع صفحات، ويتفقان على الموقف من حكومة نتنياهو: يمينية متطرفة تريد استمرار الحرب لتستمر هي في الوجود.
وفي المقابل، يختلف الكتابان كثيرًا في تشريح الصراع والموقف المفصل منه..
“أن تكون يهوديًا بعد دمار غزة”
فلنبدأ بباينارت. يهودي مؤمن جدًا، يلتزم بقدسية يوم السبت، يلجأ للكتاب المقدس وللتفسيرات الدينية حول كل ما يواجهه في الحياة، ويفتخر أنّه ربى أولاده على أن إسرائيل دولة محتلة، تقمع الفلسطينيين وتقتلهم، وأنها نظام استعماري يريد إقناع العالم بمظلوميته لتغطية جرائمه واحتلاله لفلسطين.
يشرح باينارت في بداية الكتاب كيف وصل إلى هذه القناعة. فقد عاش الأكاديمي بداية حياته في جنوب إفريقيا التي يتحدر أهله منها، وشاهد بعينه كيف كان نظام الفصل العنصري يتعاطى مع السود فيها، ويقول إن السردية نفسها اتبعتها إسرائيل وفهم لاحقًا لماذا كان يهود كايب تاون متمسكين بنظام لوكليرك العنصري: السود (اقرأ الفلسطينيين) يجب أن يكونوا خاضعين وتحت السيطرة وإلا سيقتلون البيض (اقرأ اليهود والإسرائيليين). اكتشف الكاتب بعد سقوط النظام الإفريقي أنّ الأمن لا يتطلب التفوق، وهو كان شعار النظام.
يخصص باينارت صفحات عدة لشرح كيف تسيطر إسرائيل على كل مفاصل حياة الفلسطينيين وخصوصًا في غزة، ليخلص الى أن السيطرة القانونية المبنية على العرق والدين هي فصل عنصري. وينتقد كيف تعتبر السردية اليهودية السائدة أي مطالبات بالمساواة والعدالة من قبل الفلسطينيين بأنها “عنف”. يستنكر كيف أن كل ما يحصل بنظر اليهود هو “أخطاء الآخرين” وترسيخ لعقلية المظلومية الجماعية، ورمي لتهمة معاداة السامية على أي شخص لم يعد يتحمل رؤية الأجساد الممزقة في غزة، ولا يستطيع رؤية طفل فلسطيني إضافي يموت في القطاع من الجوع أو القنابل.
روايتان لهجوم 7 أكتوبر من معسكر السلام نفسه: يسار صهيوني لا يريد مواجهة حقيقة أنّ إسرائيل دولة استعمارية، في مقابل يهودي شديد التديّن يثبت للمرة المليون أنّ الأزمة ليست مع اليهودية كدين، بل مع الصهيونية كعقيدة توسعيّة استعمارية.
برأيه ما حصل في السابع من أكتوبر 2023 ليس “بوغروم” (مجزرة) جديد بحق اليهود، لكنه يشبه مثلاً معركة “لاري” في كينيا حين انتفض السكان الاصليون ضد المستعمر البريطاني في العام 1953، أو مذبحة “فورت ميمز” في ولاية ألاباما الأميركية في العام 1804 عندما قتل السكان الأصليون المستعمرين البيض الذين حاولوا سرقة أراضيهم: “هي جرائم مروعة، لا شفقة فيها، نفذتها شعوب مقموعة تقاوم المستعمر”. ورغم ذلك الرأي، يعتبر الكاتب أن ما قامت به حماس في السنوات الماضية ساعد على إعادة انتخاب نتنياهو، وسياستها مليئة بالأخطاء الاستراتيجية والأخلاقية، حتى لو كانت تقاوم محتلاً للأرض.
كذلك يخصص الكاتب صفحات عدة لشرح تركيبة المنظمات اليهودية الأميركية وعلاقتها بإسرائيل وكيف تساهم منذ بداية الحرب في تبييض صفحة هذه الأخيرة، وتبرير القتل الذي تقوم به في غزة، والتعامي عن أنّ حالات معاداة السامية التي ظهرت في أميركا بعد السابع من أكتوبر ليست جديدة أو وليدة على المجتمع الأميركي، بل هي امتداد للعنصرية تجاه الأميركيين من أصول يابانية وألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، وتجاه الأميركيين من أصول عربية ومسلمة بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول.
“القلب المفكّر”
غروسمان في المقابل، يساري معروف، يعتبر نفسه من معسكر السلام، ولم يجد تناقضًا في ذلك مع تأييده لحرب لبنان في العام 2006 مثلاً. يتوزع كتابه “القلب المفكر” على بضعة فصول كتب معظمها قبل الحرب، تتناول خواطر عامة عن إسرائيل ونظرته لها. يفسر لماذا يعتبرها تتحوّل نحو الفوضى والدكتاتورية، وماهية الدولة اليهودية. المقدمة والفصل الأخير كتبا بعد السابع من أكتوبر، ويعتبر فيهما صاحب “حتى نهاية الأرض” أن تحقيق السلام بين إسرائيل وجيرانها هو الطريقة الوحيدة لضمان أمنها وعدم تكرار ما حصل في 7 أكتوبر. أمن إسرائيل مرتبط بالسلام والعلاقات الطيبة مع الجوار، التي برأيه يجب أن يكون في صلبها مسألة الدولة الفلسطينية ومأساة هذه الدولة، وجراحها و”ألم أن يكون المرء لاجئًا وألم وجرح الاحتلال”.
بالنسبة لغروسمان، فإنّ ما حصل هو كابوس نتيجة خيانة الحكومة للإسرائيليين وللمبادئ المؤسسة لدولة إسرائيل. ولا يرى بالطبع أنّ السابع من أكتوبر هو نتيجة لعقود من الاحتلال، رغم تأكيده في أكثر من مناسبة أن الاحتلال جريمة. في تراتبية الشرور، فإنّ قتل المدنيين، الإسرائيليين هنا، من أطفال وشيوخ ومرضى هو جريمة أسوأ من جريمة الاحتلال وفق غروسمان، الذي يعتبر أن مقاتلي حماس فقدوا إنسانيتهم.
يتوقع الكاتب أن تكمل إسرائيل تحوّلها نحو اليمين بعد الحرب الحالية، لتصبح أكثر عنصرية وأكثر تطرفًا. ويرى أن الحرب “التي فُرضت عليها” سترسخ كل مساوئ الهوية الإسرائيلية. ويكرر أنّ إنهاء “مأساة الشرق الأوسط غير ممكن من دون حلّ يخفف من معاناة الفلسطينيين”.
غروسمان الذي قتل ابنه الجندي في الجيش قبل يوم من انتهاء حرب لبنان في 2006، يعتبر أن العدوان الحالي أتى ليغطي على ما يحدث في إسرائيل، من خلافات داخلية، تحوّلت الى كره كبير بين طرفين نتج عنه خطاب عام عنيف وسام عوض أن تبقى الأمور في إطار التباينات الأيديولوجية العادية. يرى أنه رغم كل ما حققته إسرائيل منذ إنشائها بقيت “وطنًا من اللاجئين”، وأنّ تروما اللجوء أساسية وبدائية لدى الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء، لكن أي منهما لا يستطيع أن ينظر للآخر بأي ذرة من التعاطف أو التفهم.
ويشجب غروسمان من يحاول زج الصراع في إطار السردية الكولونيالية (اقرأ ايلان بابيه) معللاً أنّه طالما لم يكن لليهود دولة قبل إنشاء إسرائيل فهذا يعني أنّ نظريات الاستعمار لا تنطبق عليهم، خصوصًا أنّهم ليسوا محتلاً أجنبيًا. ويعتبر أنّه بعد انتهاء هذه الحرب، ستقف الفظائع التي ارتكبها الإسرائيليون والغزيّون (اقرأ مقاتلي حماس) بحق بعضهم البعض عائقًا بينهم لسنوات.
باختصار، هما روايتان لهجوم 7 أكتوبر من معسكر السلام نفسه: يسار صهيوني لا يريد مواجهة حقيقة أنّ إسرائيل دولة استعمارية، في مقابل يهودي شديد التديّن يثبت للمرة المليون أنّ الأزمة ليست مع اليهودية كدين، بل مع الصهيونية كعقيدة توسعيّة استعمارية.
Source link