المقالات

العلويون في عهد بشار الأسد (2000 –2024)

Reading Time: 1 minute

تمهيد

لم تكن المرحلة الوطنية قصيرة الأجل (1946 -1958) ملائمة لكثير من العلويين، وحصلت بعض المنغصات في السنوات الأولى بعد الاستقلال، جعلتهم يشكّون في نيّات السلطة الوطنية، لدرجة مقارنتها بالحكم العثماني. على سبيل المثال، تركَ إعدام كل من النائب في البرلمان سلمان المرشد والثائر بو علي شاهين، وممارسات الشرطة في عهد حكومة جميل مردم بك، صدمةً وخيبة أمل كبيرتين بعد الاستقلال، وتبين وجود رغبة عند قيادات الكتلة الوطنية في الانتقام من العلويين (والدروز)، بحجة “تعاونهم مع الفرنسيين”، كما أشار عضو الكتلة الوطنية أحمد نهاد السياف، في مذكراته المنشورة بعد وفاته.

خلال هذه الفترة، تركَّز الحراك العلوي داخل الجيش، ومن خلال الأحزاب العقائدية العلمانية، ولا سيما حزب البعث والحزب القومي السوري الاجتماعي، إلى أن نجح تنظيم بسيط هو اللجنة العسكرية في لعب دور مهم في مجريات انقلاب 1963 والسنوات القليلة التي تلته. ولم يكن التنافس على المناصب والمكاسب يأخذ البعد الطائفي الذي بقي هامشيًا ومُضمرًا، مقارنة بالعامل الأيديولوجي، ولكنه بقي قابلًا للاستخدام حين كان يمكن أن يؤدي دورًا في تعزيز التحالفات ويساعد في تحقيق الأهداف.

 ثم تبلور الدور العلوي بعد انقلاب الأسد الأب 1970، كذراعٍ أمنيةٍ للنظام اقتضتها طبيعة انتماء قمة هرم السلطة إلى الطائفة العلوية، ولم يكن ذلك منفصلًا تمامًا عن وعي العامة بدور يقومون به على خلفية مظلوميتهم التاريخية، إلى جانب قناعة بعض العلويين وغيرهم بالدعاية الديماغوجية للسلطة في ما يتعلق بعلاقتها التصادمية مع الخارج، المعادي أو المُستَعدى، لتكريس مزاعمها الوطنية. في هذه العلاقة، لم يكن للعلويين امتيازات إلا بمقدار خدمتهم للسلطة، وقد تم اختيارهم من ذوي القربى ضمانًا للثقة ليكونوا أهم أسوار حماية النظام، فهجروا أرضهم، ولم يبقَ فيها سوى قلة من الذين تابعوا صيرورة تطورهم الطبيعية والبطيئة، بعيدًا عن مفاسد السلطة و”نعمها”.

في البداية، لم يكن لدى العلويين ما يقدمونه للسلطة إلا كجند يشدّون أزرها، بينما عملت النخب العلوية على التحالف مع برجوازية المدن من السنّة والمسيحيين ورجال دينهم لبناء ركائز اقتصادية – دينية، فيما قضت السلطة على كلِّ استقلال ديني واجتماعي عند العلويين، لدرجة استبدال مشايخهم التقليديين بآخرين مصنَّعين على المقاس بعد تقاعدهم من الجيش والأجهزة الأمنية، أو من أولئك المتشيّعين الذين التحقوا بدوراتٍ دينية في بلدة “السيدة زينب”، على غرار الدورات العسكرية، ففشل معظمهم لعدم تقبّل البيئة العلوية لهذا التوجه الجديد، وعادوا ليتعلْوَنوا من جديد. لقد كان على العلويين أن يتماهوا في السلطة، فلا يبقى لاستقلاليتهم الدينية مكان، وكأنهم وُلدوا ليكونوا أسديين وحسب، ويكفيهم الشعور بأنهم تجاوزوا قرونًا من المظلومية التاريخية!

وكان المطلوب من رجال الدين العلويين أن يطابقوا بين العلوية والشيعية، لسبب سياسي محض، بخلاف الواقع، فيكون الرئيس الأسد شرعيًا من الناحية الدينية باعتباره شيعيًا، أي مسلمًا، ليتوافق مع متطلبات دستور 1973 بأن يكون رئيس الدولة مسلمًا. أما أن يكون الرئيس علويًا، فهو أمر إشكالي، نظرًا للاعتقاد السائد في بعض الأوساط السنية بأن العلويين غير مسلمين وهراطقة.

ولضمان التحاق كثير من الشباب العلويين بمؤسسات النظام الأمنية والعسكرية، تم استغلال واقع قلة الموارد الاقتصادية في بيئتهم الجبلية، فوقعوا في فخّ الحاجة، وتحوّلوا إلى جنود يرتزقون من خدمتهم للنظام. وتمّ قمع أي معارضة سياسية داخل الطائفة، فتحوّلت معظم هذه المعارضة تدريجيًا إلى مجالات ثقافية وفنية لا تشكل خطرًا على النظام.

لقد كان على العلويين أن “يتجرّعوا” التخويف المستمر من عودة الماضي، ليقتربوا أكثر فأكثر من السلطة، وما يقتضيه ذلك من تغييب لذاكرتهم التاريخية، وبغياب أي مرجعية يمكن أن تشارك السلطة الاهتمام بشؤونهم والتعبير عن وجهات نظرهم. ومع ذلك، كان شعور معظم العلويين بأنهم يعيشون عصرهم الذهبي، كوهم أو كحلم، حتى ولو كان الواقع يخالف ذلك، نظرًا لمرور قرون عصيبة لم يعرف فيها “العلوي” غير الهروب إلى العزلة، ليحمي عقيدته من لعنة التكفير السنية والرفض الشيعية، فلا غرابة أن يلتجئ بعض العلويون أحيانًا إلى مَن يشعرون بالأمان بوجوده، حتى لو كان البعيد عنهم في البيئة والمعتقد، كالصليبيين والفرنسيين وحتى المغول (قبل تسنينهم)، حين يتهدد وجودهم فقط.

أما وقد توفر شرط أساسي لتبلور العصبية بوجود قائد وحيد بعد عام 1970، فقد صار الأمر يبعث على الغبطة، حتى لو لم يجد العلوي البسيط ما يسدّ به رمقه، وفي وعيه، ولا وعيه، خوف من العودة إلى ملاذه الجبلي ليعيش عزلة جديدة. ولم تستند العصبية إلى مرجعية خاصة بها، فمثل هذه المرجعية تشكل خطرًا على نظام الأسد، لأنها ستقاسمه النفوذ والسيطرة ويريدها الأسد له وحده، لذا يمكن توصيف هذه العصبية المتشكلة بأنها عصبية علوية – أسدية أكثر من كونها عصبية علوية صرفة.

لقد سحب الأسد الأب تاريخ العلويين وطريقتهم الدينية من التداول، وكان على العلويين أن يتشبهوا بالسنّة والشيعة ويقيموا الصلاة الظاهرة، كما يفعل رئيسهم في المناسبات الدينية. واستمر التيار الديني التقليدي بأداء طقوسه كما كانت عبر التاريخ، ولكنه لم ينجُ من لعنة السلطة، بما في ذلك محاولة إدخال شخصية الأسد الأب ضمن دائرة القدسية العلوية، ولا سيما بعد أن عاد الخوف الوجودي في فترة الصراع مع الإخوان المسلمين وطليعتهم المقاتلة (1976 -1982).

وفي بلدٍ تسيطر الأجهزة الأمنية على كل مؤسساته التي يهيمن عليها العلويون، ارتبطت العلوية في ذهن العامة بدكتاتورية النظام، من دون أن نُغفل وجود المواقف الطائفية المسبقة والمتعالية عند بعض الأوساط الدينية السنية، وأخطرها تكفير العلويين استنادًا إلى فتاوى ابن تيمية وغيرها. ولهذه الأسباب، يأخذ الخوف من الآخر، السنّي، بصفته التي يكفِّر بها العلويين، شكل رُهاب مرضيّ أحيانًا، خوفًا من أن يتحوّل إلى واقع في أي لحظة، كما حدث في سنوات الحرب الأخيرة، واستمر بعد سقوط النظام.

إن الدور المهمّ الذي لعبه العلويون في بنية النظام جعلهم أسرى مصالحه في البقاء في الحكم “إلى الأبد”، وضاعت مصلحتهم المستقلة بغياب من يمثّلهم، كمرجعية أو كقوى سياسية أخرى، فحتى القمع الذي كان النظام يمارسه صار مرتبطًا بالطائفة العلوية، لأن “أعداءها” التاريخيين من بعض النخب السنية ينظرون من هذه الزاوية إلى الأحداث وحسب، انطلاقًا من سيطرة الديني على السياسي وهيمنته، لذا يمكن أن نفهم التحول من العداء للنظام إلى العداء تجاه العلويين، بعد بروز الأسلمة في ثورة 2011.

ومع توافق مصلحة العلويين مع مصلحة النظام على العموم، فإن الريادة والقيادة كانت لمصلحة النظام وليس الطائفة، فهو يمتلك حرية المناورة المستمدة من حيازته للسلطة، من أجل التقرب من الأطراف الأخرى أو النأي بنفسه عنها، حسبما تقتضي مصلحته.

وباعتبار أن النظام زائل والطائفة باقية، فإنها ستتحمل وزر سياساته لعقود قادمة، حتى لو تم الانتقال بسورية إلى نظام ديمقراطي لامركزي وعلماني، والتشديد على كلمة علماني هنا يأتي من قناعة راسخة بأن لا دولة حديثة من دون الفصل بين السياسة والدين في منظومة الحوكمة والإدارة. 

يمكنكم قراءة البحث كاملًا من خلال الضغط على علامة التحميل أدناه.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى