من القوقعة إلى المصلحة – مقال في الطائفية

تنويه:
كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “الأزمة الطائفية في سورية”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.
رئيس التحرير
يظهر الدِّين على مسرح التاريخ كظاهرة اجتماعية- ثقافية تأخذ شكلًا فئويًّا، يمكن أن نطلق عليه اسم طائفة دينية، فالدين دائمًا يوجد بشكل فئوي- طائفي في الواقع. ولا يوجد دين خارج البعد الفئوي الطائفي، وهذا يشمل كل العقائد الدينية واللا-دينية أيضًا. إنّ الحضور الفئوي الطائفي للدين في المجتمع يُلبّي الاحتياجات المادية والاحتياجات المعنوية للأفراد والجماعات.
أولًا- احتياجات نفسية- معنوية مشروعة، كالشعور بالانتماء، أو احتياجات غير مشروعة، كالشعور بالتمايز والتفوق على الآخرين والجوار المُختلف عقائديًا. عادةً ما تملك الفئويات الطائفية ذاكرة جمعية وسرديات تاريخية تتناقلها الأجيال، ومعظمها شفوي. تقوم هذه السرديات على مزيج من الانتصارات الأسطورية والمظلوميات المبالغ بها، وعادة ما تحفر هذه السرديات حدودًا واضحة ونافرة لانفصال هويّاتي شعوري عن طوائف الآخرين. على سبيل المثال: حافظ الأسد هو بطل استثنائي مجيد وشخصية وطنية في العقل الطائفي العلوي، في حين هو مجرم حرب ومرتكب مجزرة حماة وشيطان رجيم في العقل الطائفي السنّي، كذلك يُعتبر الشيخ حكمت الهجري زعيمًا دينيًا وسياسيًا ووطنيًا علمانيًا في العقل الطائفي للموحّدين الدروز، في حين هو طالب زعامة وخائن وعميل إسرائيلي في العقل الطائفي السنّي. ويعتبر صالح العلي شخصية وطنية ومجاهدًا ضد الاحتلال التركي والفرنسي في العقل الطائفي العلوي، في حين هو مجرد قاطع طريق ومرتكب جرائم تهجير جماعي، في العقل الطائفي الإسماعيلي.
ثانيًا- احتياجات تمليها ضرورة الحياة، وتتعلق بالبعد المصلحي السياسي. عمليًا لا يوجد حدود واضحة أو قاطعة بين المجال الديني والمجال السياسي. عمومًا تقلّ درجة الاعتماد والتداخل بين الديني والسياسي في الدول الديمقراطية العلمانية الحديثة، ولكنها تبقى موجودة. مثلًا هناك مجتمعات وطوائف دينية معينة تصوّت بشكل كبير ومُتكرر لأحزاب بعينها، وفقًا لانحيازيات سياسية أيديولوجية. في المدينة الكندية التي أعيش فيها يوجد جالية عربية- مشرقية كبيرة، معظم الناخبين من أصول مسيحية صوّتوا لحزب المحافظين، بناء على توصيات من كنائسهم، في حين صوَّت معظم الناخبين من أصول مسلمة للحزب الليبرالي، بدعم من مشايخهم أيضًا. ويحظى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشعبية كاسحة ضمن الأوساط المسيحية الإنجيلية، وفقًا لاستطلاعات الرأي[1]، صوّت 81 بالمئة من الإنجيلين البيض لصالح ترامب في انتخابات 2024. إذًا، العلمانية هي فصل إجرائي تنظيمي بين الديني والسياسي، وليست فصلًا حادًا وتامًا، إذ يستحيل وجود فصل كهذا عمليًا!
وبالعودة إلى سورية والمشرق العربي عمومًا، نجد أن الطائفية ظاهرة اجتماعية تأخذ شكلًا قانونيًا في علم الاجتماع، مثلًا هناك طوائف سنية- شيعية- علوية –درزية – إسماعيلية مرشدية متمايزة وواضحة المعالم، من خلال هويتها الاجتماعية- الثقافية واستيطانها الجغرافي وانحيازاها في الصراعات والحروب. والطائفية ظاهرة قديمة ترتبط بالاجتماع والتاريخ الإنساني نفسه، ففي كتاب (الملل والنحل) لأبي الفتح الشهرستاني المتوفى 548 هجري، وفي كتاب (البداية والنهاية) لابن كثير المتوفى 717 هجري، نقرأ عناوين من قبيل (وفي هذه السنة، خرجت النصيرية عن الطاعة.. وفي هذه السنة، هجم الشيعة الروافض …). ومن خلال قراءتي، غالبًا ما تحدث المجازر الطائفية عقب انحيازات سياسية خاطئة أو اصطفاف سياسي قامت بها زعامات هذه الطائفة في مفصل تاريخي معين. وغالبًا ما تكون المجازر في سياق انتقامي! ما قامت الدولة العثمانية به هو قوننة هذا الوجود الطائفي، وليس اختراعه من خلال نظام الملل العثماني. ولا ينبغي تفسير صراعات الطوائف الدينية فقط بسبب العامل العقائدي-الديني، بل هي صراعات متعددة الأبعاد، وغالبًا ما تكون لأسباب سياسية- اقتصادية، كالامتناع عن دفع الضرائب مثلًا!
الطائفية السياسية حالة سابقة للأسدية. والسلطة الاستبدادية بالضرورة تقوم على عصبية اجتماعية وحامل اجتماعي موثوق، قد يكون عائليًا أو طائفيًا أو قوميًا. والسلطة الاستبدادية غالبًا ما تستثمر في الانقسام المجتمعي وتديره بطريقة تخدم مصالحها. العلاقة ما بين قوى الشَّخصنَة الطائفية والسلطة ليست علاقة استخدام من طرف واحد! بل هي علاقة ولاء وتخادم مُتبادل! ولكي تكسب السلطة الولاء، ينبغي لها منح امتيازات معنوية ومادية للأتباع الموالين طائفيًا! وليس بالضرورة أن يشمل الولاء كل شرائح الطائفة وأفرادها، ولكنه يجب أن يُقنع غالبها أو القوى الأكثر تأثيرًا فيها.. لكي يستمر تحالفها واستخدامها من قبل السلطة، وينعكس ذلك شعورًا بالتفوق المادي والمعنوي عند غالبية المُنتسبين إلى الطائفة. ويمكن تطبيق القراءة السابقة على المُعارضات السياسية للسلطة واستنادها إلى حوامل طائفية أخرى.
في عصور ما قبل الدولة الحديثة (حقوق الإنسان- العلمانية- الديمقراطية)، وهذا ما ينطبق على الحالة العربية- المشرقية حاليًا، كانت الطائفة تمثّل الحزب السياسي كما هو في الحالة السورية. فالانحيازيات السياسية للسوريين غالبًا ما تعتمد على الانتماء الطائفي.
الطائفة تمثل (الوطن الحقيقي) للسوريين. هم يدافعون بإخلاص عن وجود طوائفهم وسمعتها. كثيرون منهم مستعدون للقتال والاستشهاد وإعلان الخصومة مع الآخرين لأجلها! فالحالة الطائفية في سورية متجذرة بشدة في بنية المجتمعات السورية.
السلطة السورية الجديدة هي سلطة ذات حامل طائفي سنّي، وهذا ما يُفسّر شعبيّتها وقوّتها في شد العصب الطائفي السنّي في سورية. وكونها سلطة ذات شعبية يعني أنها غير مُهدَّدة ومرتاحة، وهذا أمر جيد، لأنه يُتيح لها عمليًا، ويرتّب عليها وطنيًا وأخلاقيًا، مسؤوليةَ النهوض بمشروع وطني جامع لكل السوريين. وكلنا أمل بذلك.
لأسباب موضوعية وديموغرافية في الحالة السورية.. إنّ الاستناد إلى عصبية طائفية سنّية هو مرحلة لا بد منها لأي سلطة لديها مشروع انفتاح اجتماعي-سياسي على السوريين. قد يبدو هذا الرأي مُتناقضًا! والسبب من وجهة نظري: لكي تشعر بثقة وبأمان نسبي يُمكّنها من تقديم تنازلات لصالح المشروع الوطني السوري. نجاح المشروع الوطني السوري للسلطة الجديدة يقتضي التخلص من الفصائل الجهادية المتطرفة والمنفلتة، وإيجاد حلول لمسألة المقاتلين الأجانب (ذوي الأجندات غير الوطنية). وهذا يحتاج إلى دعم خارجي أصبح مُتوفرًا على الأرجح، كما يحتاج إلى دعم الحامل الاجتماعي للسلطة، الذي هو داخليًا حامل سنّي أساسًا!
مقاربات الحل للمشكلة الطائفية في سورية – مسؤولية السلطة:
تتعلق الحالة الطائفية، من حيث الانتشار والتوتر الاجتماعي، بطبيعة النظام السياسي للدولة، حيث تنظر السلطة إلى الحالة الطائفية كعامل داعم لوجودها أو كعامل مُهدّد لها. السلطة السياسية المُهددة غالبًا ما تستخدم الورقة الطائفية لخلط الأوراق، وتستخدمها كذلك لتقوية عصبية السلطة نفسها وتقوية صلتها بالحامل الاجتماعي- السياسي الطائفي. بالمقابل، السلطة السياسية المُستقرّة غير المهددة قد يخف اعتمادها على الورقة الطائفية. ومن ثم، فإن وجود سلطة مرتاحة في سورية غير مهددة داخليًا أو خارجيًا قد يصبُّ في خانة تخفيف الاحتقان والصراع الطائفي في سورية. كلما ازدادت التشاركية السياسية وتم فتح الباب أمام المُشاركة المجتمعية للسوريين؛ خفَّ الاحتقان الطائفي. حيث إنه في ظروف انعدام الحياة السياسية طيلة الحقبة الأسدية وحتى الآن من الطبيعي أن تتحول بُنى المُجتمع الأهلي والطائفة أساسًا إلى ممارسة دور الأحزاب والتيارات السياسية. السوريون يعبّرون عن توجهاتهم السياسية من خلال الموقف الطائفي، لعدم وجود بدائل سياسة في الفضاء العام للتعبير، ومن ثم فإنّ تعزيز التشاركية وتنظيم أسس حياة سياسة سورية هو المفتاح لعلاج الصراع الطائفي. يمكن البدء تدريجيًا من خلال انتخابات النقابات المهنية وغرف الصناعة والتجارة واتحاد الصحفيين، وكذلك بانتخابات البلديات.. وتدريجيًا يتم توسيع وتعميق التمثيل الديمقراطي عبر سنّ قانون أحزاب سياسية وقانون تظاهر وصولًا إلى انتخابات على المستوى الوطني.
ثمة نقطة أخرى تتعلق بمسؤولية السلطة السورية الجديدة، هي تسريع إجراءات العدالة الانتقالية ومحاكمات كبار المجرمين والمتورطين في أعمال وحشية، بغضّ النظر عن المكان والزمان. الاحتقان الطائفي في سورية هو في جزء كبير منه إحساس دفين بمظلومية مجتمعية وشخصية، في حال تأخر أو عدم تحقق العدالة الانتقالية، سوف يُعبَّر عنها بالثأر الشخصي والغصب الذي قد يأخذ شكل انتقام طائفي. ومن المهم في هذا السياق الإشارة إلى ضرورة وجود مواكبة إعلامية تُركِّز على مشهَديَّة إجراءات المحاكمات وتنفيذ الأحكام، لما لذلك من أثر إيجابي في تهدئة النفوس وتخفيف حمولات الغضب والاحتقان، والتخلي عن فكرة طلب الثأر.
إن العدالة الانتقالية لا تعني محاكمة كل المجرمين، ببساطة لو أردنا محاكمة كلّ المجرمين في سورية ربما نكون أمام 1-2 مليون سوري مُتهم، وهذا ما سوف يؤدي الى تخريب النسيج الاجتماعي السوري، لذلك من المهم التأكيد على إجراءات أخرى، تشمل الاعتذار العلني ودفع التعويضات وإعادة الاعتبار الرمزي للضحايا عبر مناهج التعليم والنشاط الثقافي وتسمية شوارع ومباني حكومية بأسمائهم مثلًا!
تجريم الخطاب العنصري بصيغته الطائفية وغير الطائفية مهمٌّ كذلك، خاصة عندما يصدر هذا الخطاب من قبل المُوظفين الحكوميين وعناصر الشرطة والأمن العام. إن كل خطاب طائفي أو ممارسة ذات بعد طائفي عمليًا سوف تُذكِّر السوريين بالطائفية وتشد من عصبها لديهم. لذلك من المهم جدًا تجنُّب المُحرضات. من الضروري بالنسبة إلى عناصر الشرطة والأمن أن تقوم الدولة بدورات تدريبية واحترافية حول طريقة تعاملهم مع المواطنين، وما يجوز وما لا يجوز التلفظّ به والسؤال عنه.
مقاربات الحل للمشكلة الطائفية في سورية – مسؤولية الأطراف الأخرى:
على الرغم من أن المسؤولية الأكبر في علاج المُشكل الطائفي تقع على عاتق السلطة، فإن المسؤولية متعددة الأطراف ومشتركة، فهي مشكلة وطنية سورية بامتياز. لا يكفي تعليق الطائفية على مشجب السلطة وتبرئة النفس والجماعة الطائفية. الانتماء الطائفي في جزء منه يعطي شعورًا كاذبًا ومبالغًا به بالقوة، لدى أفراد الجماعة التي تؤمن به، وهذا ما يجعل نظرتهم للمشهد السياسي وتوازنات القوة تعاني الاختلال. العقل الطائفي لا يعترف بالدولة الحديثة، بل يراها فريسة يجب الاستيلاء عليها، أو عدوًا يهدد وجود الطائفة واعتبارها، لذلك الموقف الطائفي بالنظر الى الدولة هو بحد ذاته إشكالية. الحالة الطائفية تبحث عن دعم خارجي يُعزّز موقعها، فهي لا تؤمن بالحدود السياسية وسيادة الدول، لذلك يتم استدعاء دعم المؤثرين الدوليين، والأشقاء من نفس الطائفة خارج الحدود أو الاستقواء بهم. هذا سوف يؤدي إلى تراجع السلطة الحاكمة عن اعتبارها الوطني، واستحضار بُعدها الطائفي بالمقابل. وبذلك يزداد الشرخ الوطني.
في الحساب الطائفي، يوجد حجم معين مُسبق الوزن لكل شخص أو مجتمع ربطًا بانتمائه الطائفي ولا سبيل إلى تجاوزه. مثلًا طائفة دينية معينة نسبتها 2% أو 10 % أو 30%من الشعب السوري، عادة لا يستطيع الشخص السوري المنتمي الى هذه الطائفة تجاوز حد التأثير الاجتماعي-السياسي المُؤطر مُسبقًا، بالمقابل، عندما يقدّم هذا الشخص أو المجتمع المحلي نفسه بدلالة الانتماء الوطني السوري، عندئذ سوف يتجاوز تأثير هذا الشخص ال 2% و10% بكثير، ويصبح مَعنيّا بكامل الشعب والمجال العام السوري. إن الانتماء الهوياتي الطائفي الضيق هو بمنزلة سجن يقيّد الإنسان، ومن مصلحة الشخص نفسه تجاوز هذا الانتماء، وتلك مسؤولية مشتركة بين الشخص والدولة عبر توفير الإمكانات والشروط المناسبة.
في حوار لي مع أحد المعارف، قال: “أنا أقدِّم نفسي كإنسان سوري فقط، ولكن الآخرين، ومنهم مسؤولين حكوميون، يتعاملون معي بصفتي شخصًا محسوبًا على الطائفة الفلانية”. في الحقيقة، هذه قضية مهمة تسلّط الضوء على الثقافة السورية الطائفية السائدة لدينا. إنّ الإصرار على التقديم الإنساني والوطني للشخص لا يتعارض مع انتمائه الفئوي الديني. في هذا الصدد، يمكن القول إنّ الشخص نفسه هو المسؤول عن طريقة تقديمه لنفسه. يجب ألا نسمح للآخرين بتأطيرنا مُسبقًا. التقديم لا يكون بالخطاب فقط، بل بالمواقف والسلوك ونقد القصور الذاتي للفئوية الطائفة نفسها بمعيار إنساني وطني.
إن الاعتراف الوطني الحقوقي بهوية الأشخاص هو قضية غير مُتحققة في الواقع السوري، هو بمنزلة استحقاق مُستقبلي يجب أن نخوضه نحن السوريين في المجال السياسي- الحقوقي، باستخدام القوة الناعمة والطرق السلمية، وفي سياق صيرورة وجهد تراكمي قد يستمر عقودًا. فعندما تقدِّم نفسكَ باعتبار إنساني- وطني، ستكسب عندئذ التعاطف والتأييد واحترام كثيرين خارج دائرة الانتماء الطائفي. بالمقابل، كل الخيارات الأخرى سوف تؤدي إلى تفاقم المشكلة الطائفية، وانغلاق القواقع الطائفية على السوريين الخائفين من بناء مستقبل ووطن ما زال يحبو على طريق العذابات الطويل!
[1] Christianity today. Trump’s path to victory still runs through the church- harvest prude