طريق الحج الشامي… شريان روحي وحضاري امتدّ لثلاثة عشر قرناً – S A N A

دمشق-سانا
منذ بزوغ فجر الإسلام، شكّل طريق الحج الشامي أحد أعظم المسارات الدينية والتجارية والثقافية في التاريخ الإسلامي، من خلال الطريق الذي امتد من دمشق إلى المدينة المنورة، ومكة المكرمة، مسافراً عبره ملايين الحجاج.
طريقٌ في قلب الزمان
نشأ طريق الحج الشامي مع بداية الفتح الإسلامي للمنطقة زمن الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب، ليكون المسلك الرسمي لحجاج الشام في البداية، ثم الأناضول والقوقاز مع انتشار الإسلام، ليترسّخ هذا الطريق كأحد الطرق الثلاثة الرئيسية للحج في العالم الإسلامي، إلى جانب الطريقين المصري والعراقي.
وحسب ما ورد في موقع موسوعة الآثار في سوريا، فإن الطريق الذي كان يمتد من دمشق، مروراً بجنوب سوريا، ثم عبر صحراء الأردن، فشمال الحجاز، وصولاً إلى المدينة ومكة بلغ طوله قرابة 1300 كم، وكان يستغرق قطعه قرابة أربعة أشهر ذهاباً وإياباً، شاملة فترات الراحة والتزوّد بالماء والغذاء.
رعاية الطريق
منذ وقت مبكر، أولت الدول الإسلامية المتعاقبة عناية كبيرة بالطريق، فبدأت ببناء المحطات، والبرك، والصهاريج، والمنارات، ووضع علامات المسافة، التي كانت تُرشد الحجاج، وتوفر لهم أسباب الراحة والبقاء، وأُنشئ منصب أمير الحج، الذي كان يتولّى قيادة القافلة وتنظيم شؤونها، وترافقه عادةً قوة عسكرية لردع اللصوص وقطاع الطرق، كما كانت القافلة تضم قاضي الركب للفصل في النزاعات بين الحجاج، وسردار الجردة، وهو المسؤول عن التحقق من عودة الجميع سالمين.
رعاية الخلفاء والملوك عبر العصور – العهد الأموي
حسب ما تؤكده موسوعة الآثار في سوريا، بلغ طريق الحج الشامي أوجه في العصر الأموي، حيث كانت دمشق عاصمة الخلافة، وشهد الطريق عمليات تطوير واسعة شملت ترميم البرك، وبناء المساجد، وإقامة علامات المسافة، ومنارات الإرشاد، كما جُدّد مسجد تبوك، وأُنشئت محطات متقدمة على امتداد الصحراء.
العهد العباسي
رغم انتقال مركز الخلافة إلى بغداد في العصر العباسي، ظل الطريق الشامي نشطاً بفضل مكانة دمشق الروحية، وازداد عدد المحطات ومواضع الإمداد بالماء والطعام، وخاصة في منطقة وادي القرى (شمال الحجاز)، وحرص الخلفاء العباسيون على تأمين الطريق وبناء الخانات والمساجد الصغيرة فيه.
العهد الأيوبي والمملوكي
تعرّض طريق الحج الشامي حينها لبعض الاضطرابات، إلا أن صلاح الدين الأيوبي أعاد الأمن إلى الطريق، واعتنى به من جديد، وكذلك فعل من خلفه المعظم عيسى بن العادل، الذي أعاد تأهيل المرافق الحيوية.
أما في العصر المملوكي، فتنافس المماليك في مصر والشام على تطوير طريق الحج، فشهد الطريق الشامي محطات حراسة وقلاعاً كبيرةً ومراكز خدمية جديدة، وظل أمير الحج الشامي يُعيَّن من كبار قادة الدولة.
العهد العثماني
تفيد موسوعة الآثار أن الطريق بلغ ذروة تنظيمه في العهد العثماني، وخاصة في عهد السلطان سليمان القانوني، الذي خصّ الطريق بعناية فائقة، تحوّلت القافلة إلى موكب رسمي ضخم يُعرف بـ”القافلة العظمى”، ورافقها جيش نظامي، ومواكب احتفالية.
وعندما أنشأت الدولة العثمانية سنة 1908 سكة حديد الحجاز، امتدت من دمشق إلى المدينة المنورة، فاختصرت زمن الرحلة إلى أقل من عشرة أيام، وعزّزت من تماسك العالم الإسلامي، ومكانة دمشق كعاصمة للحج الشامي.
وتألف هذا الخط من محطات رئيسية داخل سوريا، وهي دمشق، الكسوة، درعا، وبصرى، وفي الأردن المفرق، الزرقاء، البلقاء، ومعان، قبل دخول صحراء الحجاز، والمرور بمحطات حالة عمار، تبوك، العلا، مدائن صالح، الحِجر، ثم المدينة المنورة.
البعد الاقتصادي والاجتماعي للطريق الشامي
لم يكن طريق الحج مجرد دربٍ روحي، بل مثّل دورة اقتصادية حيوية، فساهم في تنشيط التجارة، وازدهرت المدن على طريقه وخاصة دمشق، التي كانت تنطلق منها القافلة، ونشأت فيها أسواق موسمية كسوق الحج، وتوسعت أسواق دائمة مثل سوق السويقة وسوق تحت القلعة، وأُقيمت الخانات الكبرى، مثل خان أسعد باشا والجمرك والحرير والسفرجلانية والعروس.
كما ازدهرت الحرف المرتبطة بالحج، مثل صناعة القرب، وصيانة الجِمال، وحياكة الأثواب، وتحضير الزاد، وكانت القافلة تضم فرقاً موسيقية وشعراء ووعّاظاً، ما أضفى طابعاً ثقافياً وروحياً مميزاً على الرحلة.
طريق الحضارة والتواصل
على امتداد أكثر من 13 قرناً، كان طريق الحج الشامي جسراً حضارياً نقل الفنون والمعارف واللغات بين أطراف العالم الإسلامي، كما شكّل نموذجاً نادراً في التخطيط والإدارة والخدمات اللوجستية.
ولا تزال آثار الطريق قائمة إلى اليوم، وفقاً لما وثّقه الباحث غزوان ياغي في موسوعة الآثار في سوريا، في شكل قلاع، وآبار، ومساجد مهجورة، ومحطات سكة حديد، تحكي قصة شريان روحي وحضاري، وحّدت الأمة الإسلامية حول مقصد واحد: البيت العتيق.
تابعوا أخبار سانا على التلغرام والواتساب
Source link