التشظّيات الراهنة للمسألة الطائفية في سورية

تنويه:
كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “الأزمة الطائفية في سورية”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.
رئيس التحرير
مقاربة أولية
لعلّ إحدى معضلات الثورة السورية ومصادر تعقيدها أنها كانت في مواجهة (استبداد مُركّب)، أعني استبدادًا سياسيًا وطائفيًا بآن معًا، إلّا أن الارتدادات المباشرة للطائفية طيلة الحقبة الأسدية كانت متمركزة نسبيًا في إطار مؤسسات الدولة، أمّا تشظياتها على المجتمع، فكانت محدودة، ليس لأنها خافية على أحد، بل لأنها من المسائل المسكوت عنها، بفعل قمع السلطة من جهة، وبفعل ما يمتلكه السوريون من إرث اجتماعي ظلّ بعيدًا عن الانفجارات العرقية أو الطائفية منذ عهد الاستقلال، من جهة أخرى.
مع انطلاقة الثورة السورية (آذار 2011)، وانتقال المواجهات بين الشعب والسلطة إلى طور العنف المُفرط، وموازاةً مع استنجاد نظام دمشق بحليفه الإيراني، بدأت تتدفق إلى الجغرافيا السورية حشود بشرية شتى، من العراق ولبنان وأفغانستان، لنصرة قوات النظام، ولم تُخفِ تلك الحشود دوافعها منذ الأيام الأولى للمواجهات، ذلك أن جميع شعاراتها وممارساتها داخل المدن والبلدات السورية تجهر بنزعة طائفية صريحة، وقد تحولت تلك الحشود إلى تشكيلات عسكرية تعمل بتنسيق مباشر مع قوات النظام، ولعل اللافت في الأمر أن تلك التشكيلات الطائفية هي أول من بادر بارتكاب المجازر الجماعية بحق السوريين، في بانياس وحمص والريف الدمشقي، ومن ثم في العديد من المدن والبلدات السورية، وبدواعٍ وشعارات طائفية واضحة الدلالات، ولعل تلك المذابح هي التي أطاحت بجميع الحواجز والتخوم لكي تنتقل اللوثة الطائفية من حيّزها السابق (مؤسسات الدولة وأطرها الإدارية وبناها العسكرية والأمنية) إلى الحيّز المجتمعي العام. وقد أسهمت ردّات الفعل المضادة من جانب تيارات وجماعات دينية معارضة، بخطاب وشعارات ذات مضامين طائفية أيضًا، في تعزيز البعد الطائفي في المواجهة، على حساب المفاهيم القيمية الأخرى للثورة، كمسألة الحريات والحقوق وسوى ذلك. وقد أفضى هذا المسار من الحرب طيلة أربع عشرة سنة إلى حالةٍ من الاصطفاف الاثني والعرقي الذي تعزّز بتعاظم النفوذ الدولي وتعدّد سلطات الأمر الواقع، حيث إن عامل الجغرافيا غالبًا ما كان قاهرًا للعديد من الفئات (ومنها الطائفة العلوية) التي وجدت نفسها محشورة في حيّز جغرافي يفرض عليها تصنيفًا، ربّما كان البعض منها يرفضه ضمنًا، ولكنه لا يستطيع الخروج عنه.
لم يستطع الخطاب السياسي المواكب لعملية (ردع العدوان 27 تشرين الثاني – 8 كانون الأول) أن يحول دون عملية الانفجار الطائفي في ظلّ الفراغ الناتج عن غياب الدولة، ذلك أن التغيير الحاصل في سورية لم يكن نتيجة انتقال سياسي سلس تحافظ فيه مؤسسات الدولة على سيرورتها الوظيفية بانتظام، وإنما كان تغييرًا عسكريًا ثوريًا أفضى إلى اقتلاع نظام الحكم من جذوره، من دون أن يتمكّن البديل من ملء الفراغ، وفي هذه الحال لن يكون خطاب (الرحمة)، بما ينطوي عليه من تسامح وتحذير من عمليات الانتقام والدعوة إلى الحفاظ على الأرواح والممتلكات، قادرًا أن يكون بديلًا عن غياب القانون مُمَثَّلًا بسلطة تنفيذية على الأرض، ذلك أن الوعظ وخطاب حسن النوايا ربما يصلح لمواجهة حادثة معيّنة بزمان ومكان محدّدين، ولكن ليس بمقدوره أن يكون ناظمًا قانونيًا لحياة الناس.
وفي ظل افتقار السلطة الجديدة للمقدرات المادية التي تمكّنها من إحكام سيطرتها على جميع مفاصل الدولة، وكذلك في ظل عدم قدرتها على تقديم الحد الأدنى من حاجات المواطنين، فإن وجود السلطة يبقى في جزء كبير منه وجودًا اعتباريًا لا أكثر، ومن هنا يمكن القول: إن اشتعال الجذوة الطائفية في السادس من آذار الماضي لم يكن نتيجة لغياب الدولة أو هشاشة سطوة السلطة فحسب، (علمًا أن الدولة تتحمّل القسط الأوفر منها) بل نتيجة عوامل أخرى، لعلّ أهمّها:
1 – أسهم ظهور التمرّد العسكري في مدن الساحل السوري، وردّة الفعل المواجهة له، في الكشف عن هاجسين متماثلين من حيث المحتوى، متناقضين من حيث الهدف، هاجس الخوف لدى الموالين للحكومة الجديدة من أن تتمكّن فلول النظام من استعادة المبادرة العسكرية، ومن ثم الشروع في استرداد السلطة، وخاصة ان التمرّد العسكري جاء متزامنًا مع تشكيل (المجلس العسكري لتحرير سوريا) وموقّعًا باسم الضابط السابق لدى نظام الأسد العميد (غياث دلا)، أضف إلى ذلك التغطية الإعلامية من وكالة (مهر) الإيرانية التي لم تدّخر جهدًا في التحريض والتجييش نحو ما أسمته (المقاومة السورية للمؤامرة الإسرائيلية الأمريكية). وبالمقابل فإن ثمة هاجسًا آخر لدى الفئة الموالية للنظام من الطائفة العلوية، فحواه أنها لم تستطع التصديق بعدُ، أو لا تطاوعها مخيلتها على الإقرار بأنها فقدت السلطة بالفعل، وباتت جميع الامتيازات التي حازتها، طيلة أكثر من نصف قرن، خارج يدها، ولعل الشعور المباغت باليتم لدى أنصار نظام الأسد والمتضرّرين من زواله دفع بهم للتمسّك بأية بادرة -حتى ولو كانت فاشلة- من شأنها أن تعزّز لديهم الإحساس بالقدرة على استعادة السلطة. ولعل هذين الهاجسين جعلا كلّ طرف يضفي على تلك المواجهة المصيرية -وفقًا لتقدير الطرفين المتقاتلين- طابعًا وجوديًا. وفي حال كهذه من الطبيعي أن تنزاح معظم الكوابح الرادعة للفتنة والتجييش، لصالح مناخ عام مزكوم بكل ما هو قبيح ومنفّر، وذلك ما تجلّى بعملية النفير العام الموازي لخطاب الفزعة الذي لم يفض في النتيجة إلا إلى مقتلة راح ضحيتها (803) من المواطنين المدنيين، وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، في حين أشار المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن عدد الضحايا المدنيين (973) ضحية، إضافة إلى (310) من عناصر العام، و (250) من متمرّدي فلول النظام، وفقًا للمصادر ذاتها.
ولا بدّ من الإشارة -في هذا السياق- إلى أن قسمًا كبيرًا من الذين ناهضوا التمرّد العسكري في الساحل السوري عزوا موقفهم إلى حرصهم على التجربة التحرّرية الجديدة لسورية، وليس دفاعًا عن السلطة بأشخاصها، إذ يعتقد هؤلاء أن إضعاف السلطة الحالية أو السعي إلى إفشالها إنما هو سعيٌ ممنهج لذهاب البلاد إلى حرب داخلية طاحنة لن تنتهي إلّا بتقسيم سورية.
2 – على الرغم من تأكيد السلطة على مفهوم (السلم الأهلي) كضرورة لا بدّ منها، باعتبارها المدخل المُؤسس لدولة المواطنة، فإن مقوّمات هذا المفهوم والإجراءات والسبل المؤدية إليه كانت غائبة، أعني المسار القضائي المتمثل بـ (العدالة الانتقالية) التي بدونها سوف يبقى الحديث عن السلم الأهلي ضربًا من العبث، ولعل المؤسف أن مجمل البدائل التي اعتمدت عليها السلطة، كالمساعي التي قام بها بعض رجال الدين والجولات التي بادرت بها بعض المنظمات وكذلك حديث الإعلام عن مبادئ الأخوّة والتسامح والإرث الاجتماعي المشترك، جميعها لم تستطع الصمود أمام السعير المنبعث من وسائل التواصل الاجتماعي، إذ كانت ميدانًا رحبًا لجميع النافخين في كير الفتنة، وبهذا تكون السلطة لا تفتقر إلى الرغبة في تجاوز الأزمة الطائفية، بل تفتقر إلى مقوّمات تجاوزها.
3 – إفراغ الاستحقاقات الوطنية من مضمونها الجوهري: ولعل من أبرز تلك الاستحقاقات المؤتمر الوطني، الذي كان من المفترض أن يكون مؤتمرًا تأسيسيًا تسبق انعقاده حالة من الحوار تشرف عليه السلطة ولا يستثني أي مكون أو أي طائفة، يجري بشفافية تتيح للجميع أن يفصحوا عن أوجاعهم وتطلعاتهم، وكان من شأن حوار كهذا على مدى (ستة أشهر مثلًا) أن يُفضي إلى جملة من التفاهمات، يمكنها أن تبني جسورًا من الثقة بين السوريين كما يمكنها أن تؤسس لعقد اجتماعي سوري ربّما يحول دون كثير ممّا نراه من شروخ في الرأي والمواقف. ولكن المؤسف أن هذا الاستحقاق الذي انتظره السوريون جرى التحضير له والدعوة إليه بسرعة البرق، وانعقد على مدى يومين (24 – 25 شباط الماضي)، واكتفت السلطة باستثماره كمنجز يمكن تصديره للرأي العام الخارجي فحسب.
4 – لقد أسهم البؤس المعيشي والحياتي المزمن في تأجيج حمأة الصراع، ذلك أن الحرمان الذي يعانيه السوريون، سواء على مستوى الحاجات الأساسية أو على مستوى الخدمات منذ سنوات، قد زوّد جميع الأطراف بشحنة عالية من التوتر القابل للاشتعال، ولا سيما أنه تزامن مع تسريح لأعداد كبيرة من الموظفين، إضافة إلى عدم قدرة السلطة على سداد رواتب الموظفين الآخرين، فضلًا عن شح مصادر الدخل وانتشار حالة البطالة.
النخب السورية والمسألة الطائفية:
غالبًا ما يميل المثقفون إلى تأصيل أطروحاتهم وآرائهم السياسية، من خلال ربطها أو إرجاعها إلى جذورها الفكرية، وتلك سمة حميدة من جهة الرصانة المنهجية في البحث والتفكير، لكن شريطة ألّا تكون هذه الرصانة محصورةً في الجانب النظري للظواهر والأفكار فحسب، بل ينبغي أن تكون قرينة الوقائع منبثقةً من سياقاتها الحياتية والاجتماعية أيضًا، إذ إن الأفكار المجرّدة مهما اكتست من قيمة، فإنها تفقد جزءًا كبيرًا من مصداقيتها متى فقدت أواصرها بالواقع، ولعل هذا الشطط الكبير بين ما هو مجرّد، وواقعي محسوس، هو الذي دفع كثيرين من النخب السورية إلى بناء مقارباتهم في مواجهة المسألة الطائفية على أطروحة مركزية (قديمة جديدة)، وأعني العودة إلى الدين باعتباره مصدرًا لمفهوم الطوائف، وبالتالي لا تستقيم مواجهة النزعات الطائفية المشتعلة دون الرجوع إلى جذورها الدينية، وتقصّي تداعياتها عبر التاريخ. ولعله من غير المستغرب في هذه الحالة أن نجد المعارك تتجدّد حول معظم الأحداث التاريخية (صراع علي ومعاوية، ومسؤولية يزيد عن مقتل الحسين، مرورًا بفتاوى ابن تيمية وكتاب الملل والنحل وسوى ذلك كثير)، ويغدو الوصول إلى أي حل للمسألة الطائفية في الوقت الراهن مرهونًا بحلّها عبر التاريخ، وهذا ضربٌ من المستحيل، وما هو مستحيل أيضًا هو أن تتجرّد الناس من انتماءاتها الدينية والطائفية أيضًا، وحين يصطدم أصحاب هذا المنحى بالإخفاق، يلجؤون إلى خطابهم المعهود بالتعالي على المجتمع واتهامه بالتديّن والسذاجة وندرة الوعي، ويكون اتهامهم للدين، بأنه مصدر المعوقات المستعصية على الحل، هو مخرجهم الوحيد من إخفاقهم في عقلنة الأزمة.
وإذا صحّ أن مفهوم (الطائفة) ذو منشأ ديني بالأصل، فإن الانتماءات الدينية والمذهبية كهويات (فرعية) تبقى شأنًا خاصًا لا يغادر خصوصيات الأفراد وحرياتهم العقدية، ما دامت لا تُطرح كبديل عن الهوية (الوطنية)، ولكنها تتسيّد أو تتصدّر الهويات الفرعية حين يغيب المشروع الوطني الجامع، وتغيب الدولة، فتصبح الطائفة بديلًا عن الحزب السياسي، ويصبح حينها الولاء الطائفي بديلًا عن المعايير المهنية الأخرى. ولنا في الحقبة الأسدية من تاريخ سورية دليلٌ شديد النصاعة، إذ إن الحضور الطائفي في نظام الأسد كان بديلًا عن الدور الحقيقي لمؤسسات الدولة، فالذين حافظوا على نظام حافظ الأسد من السقوط، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، لا يتجاوز عددهم عشرة أشخاص كانوا يمسكون بمفاصل القوّة في الدولة: (سرايا الدفاع، الوحدات الخاصة، المخابرات والأفرع الأمنية، وقادة الفرق المتميّزة في الجيش)، وكلهم من الطائفة العلوية، فهؤلاء هم من اعتمد عليهم رأس النظام في الدفاع عن سلطته، وليس مجلس الوزراء أو مجلس الشعب أو الدستور أو المؤسسات الأخرى، بل إن تطييف السلطة هو من جعل بقية مؤسسات الدولة لا تحظى إلّا بدور وظيفي شكلي. ثم إن الذي دافع عن سلطة الوريث بشار طيلة سنوات المواجهة هي الميليشيات الطائفية التي تخضع لتوجيه ضباط إيرانيين كان دورهم ونفوذهم الميداني يفوق دور ونفوذ كثير من الضباط السوريين، ووجدنا أن انكفاء دور الميليشيات الطائفية في سورية، نتيجة الضربات الإسرائيلية الموجعة لحزب الله في لبنان، كان له دور واضح في فقدان نظام الأسد لأحد أهم مصادر قوته.
وبالتالي فإن المقاربة الدينية المجرّدة للمسالة الطائفية دون الوقوف عند أبعادها السياسية لا تُنتِج إلّا المقولات ذاتها، ونعني بالبعد السياسي عملية الاستثمار في الطائفة، كبديل عن الدولة، وحين تخفق عملية الاستثمار السياسي في الطائفة، فإن مجمل المقولات الجاهزة (ذات المنشأ الاستشراقي) تغدو فاقدة لأي مصداقية، ولنا في الحالة السورية أكثر من شاهد على ذلك، إذ إن (تنظيم داعش) منبثق من الطائفة السنية، ومن المفترض -وفقًا لأصحاب المقاربات الدينية المجردة- أن يدافع عن مصالح الطائفة السنية، ويعبّر عن تطلعاتها باعتبارها حاضنته الدينية، ولكن واقع الحال يؤكّد أن الطائفة المستهدَفة من داعش -قتلًا وتنكيلًا وتهجيرًا- هي الطائفة السنية دون سواها من الطوائف الأخرى في سورية، إذ إن مقاتلي داعش لم يهاجموا العلويين ولا الإسماعيليين ولا المسيحيين، ولا الدروز (باستثناء عملية واحدة في العام 2018 حين قام نظام الأسد بنقل عناصر داعش من حي الحجر الأسود في دمشق، وألقى بهم على أطراف السويداء، عقابًا لأهلها بسبب عدم السماح لأبنائهم القتال في صفوف قوات الأسد)، بينما نجد أن معظم عمليات قطع الرؤوس والمقابر الجماعية والذبح بالسيوف والسكاكين كانت في الرقة ومنبج ودير الزور وإعزاز وجرابلس وبقية المدن والبلدات التي خضعت لسيطرته.
إن إصرار النخب على مقارباتها الدينية المجرّدة من سياقاتها السياسية، ولجوئها في الغالب إلى تدعيم مواقفها بسرديات انتقائية، إنما يحيل دومًا للعودة إلى نقطة الصفر، أعني إلى الفكرة المركزية التي طرحها (أرنست رينان 1832 – 1892)، والتي ترى في الأديان عمومًا، والدين الإسلامي على وجه الخصوص، أحد العوائق البنيوية التي تجعل منه معيقًا لحركة التطور والحضارة، بل أحد عوائق التفكير الصحيح، ولعل معظم الأصوات التي لا ترى في المسألة الطائفية سوى بعدها الديني ما تزال تتزوّد من أطروحة رينان السابقة.
نحو سبل أخرى لمواجهة المسالة الطائفية:
حتى لا يمضي الحديث في سياق من (الرغبوية) الفجة، لا بدّ من الانطلاق مما هو مُتاح وممكن، أي ما هو مقدور عليه من جانب الدولة القائمة، من جهة إمكانياتها البشرية والمادية، وبما تتيحه الظروف العامة في البلاد، وبناء عليه يمكن الإشارة إلى ثلاثة مسارات، يمكن العمل عليها بطريقة متوازية:
1 – مسار سياسي يتمثّل بالعودة إلى تأسيس بداية فعلية لعملية حوار وطني شامل، تشرف عليه الحكومة ولا يُستثنى منه أحد، وذلك وفق معايير مهنية بعيدة عن الولاءات الأيديولوجية أو السياسية، فما يحتاج إليه السوريون أكثر من أي وقت مضى هو بناء وتعزيز جسور الثقة فيما بينهم، والإفصاح بكل وضوح وشفافية عمّا يمكن أن يتوافق عليه السوريون، ليسهموا في إنتاج دولتهم التي تلبي مصالح مواطنيها قبل سعيها لإرضاء الخارج الإقليمي او الدولي.
2 – مسار قانوني يبدأ بإعادة هيكلة أجهزة القضاء في الدولة، ويعيد الاعتبار لسلطة الدستور وما تنبثق عنه من قوانين، ليتاح لهذا المسار دعم الهيئة التي تشكلت بخصوص العدالة الانتقالية، وتوفير كل أشكال الدعم لتمكينها من إنجاز مهمتها بنجاح، إذ لا يستقيم الحديث عن تحقيق السلم الأهلي، دون أن يمرّ من بوابة العدالة الانتقالية.
3 – مسار اقتصادي يأخذ بعين الاعتبار أن كفاية المواطن وتلبية حاجاته الأساسية هي الشرط الملازم لتفكيره وسلوكه القويم، إذ لا يمكن للإنسان المأزوم أن يتجاوز أزمته إلّا بتجاوز أسبابها، ولعل القرارات التي صدرت مؤخرًا بخصوص رفع العقوبات عن سورية، سواء من الجانب الأميركي أو الأوروبي، تتيح للدولة السورية أن تتوجه إلى المواطن السوري قبل أي طرف آخر، إذْ من العسير التفكير في استقرار البلاد أمنيًا بعيدًا عن الاستقرار الاقتصادي، وهذا بحاجة -قبل أي شيء- إلى ركون المواطن إلى حالة من الاطمئنان والرضى، حول العديد من المسائل التي تخص معيشته ومستقبله، لعل أبرزها التوزيع العادل للثروة، وترسيخ مبدأ تكافؤ الفرص، وتلبية حقوق المواطنين في العمل بكرامة، الأمر الذي يتيح للمرء التفكير خارج إطار الفاقة، حيث إن التفكير بحريّة وبعيدًا عن المخاطر الوجودية هو ما يمنح المرء شعوره بالكرامة، وهذا ما يحتاج إليه السوريون اليوم أكثر من أي وقت مضى.