الطائفية والطائفية المضادّة في سورية: من ذاكرة الخوف إلى سياسة البقاء (كيف الخروج من تلك الدائرة الجهنمية؟)

تنويه:
كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “الأزمة الطائفية في سورية”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.
رئيس التحرير
تأسيس بلا مساواة: الطائفية المغْفَلة في الجمهورية السورية الأولى
لا يمكن تتبّع مسار الطائفية في سورية دون التوقف عند الجذور الأعمق، التي تعود إلى مرحلة تأسيس الدولة الوطنية السورية بعد الاستقلال. فمعظم رجالات الاستقلال والكتلة الوطنية -الذين تبوؤوا قيادة الدولة الوليدة- كانوا من حيث تكوينهم الثقافي-السياسي نتاج السلطنة العثمانية، وخريجي مؤسساتها الإدارية والعسكرية (1)، وهو ما انعكس لاحقًا في سلوكهم السياسي تجاه الأقليات، (ربما أبرز الأمثلة محمد علي العابد، أول رئيس سوري، وكان يشغل قبيل الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني سفيرًا للسلطنة في واشنطن) (2)، ولم يكن هذا الجيل معنيًا بإعادة تعريف “الوطنية” على أسس شاملة، بل أعاد إنتاج النظام الاجتماعي–المذهبي العثماني بواجهات حديثة.
ويُدلّل على هذا التوجّه ما أورده أحمد نهاد السيّاف، أحد رجال الحركة الوطنية ومرحلة ما بعد الاستقلال، واليد اليمنى لإبراهيم هنانو، قائد ثورة الشمال ضد الفرنسيين، في مذكراته (شعاع قبل الفجر) (3)، حيث انتقد قادة الكتلة الوطنية -وعلى رأسهم شكري القوتلي وسعد الله الجابري– لعدم تعاملهم الجاد مع ملف الأقليات، وتحديدًا قضية سلمان المرشد، التي كانت فرصة لمعالجة الشرخ الطائفي التاريخي، لكنهم فرّطوا بها. ويضيف السيّاف أنهم فرّطوا بلواء إسكندرونة وكيليكيا لتركيا، فقط كي يتخلصوا من هذا “الصداع الطائفي”، بحسب تعبيره، في محاولة لخلق سورية “متجانسة طائفيًا”، ولو على حساب الأرض (4).
بهذا المعنى، فإن الطائفية لم تُزرع فقط في عهد البعث أو الأسد، بل تم تجاهلها، أو حتى تسهيلها، من قِبل النخب السنية الحاكمة المبكّرة، التي ورثت بنية التراتب العثماني ولم تعمل على تفكيكها، بل أعادت إنتاجها بطريقة مدنية/ برجوازية حديثة. وهذا ما يفسر كيف نشأت لاحقًا الطائفية المضادّة، حين بدأ أبناء الأرياف (العلويون وغيرهم) بالصعود من هامش الدولة إلى مركزها، فتلقّت المدينة ذلك الصعود على أنه عدوان على “مركزها التاريخي”.
ولم تكن الطائفية في سورية نتاج بنية الدولة فحسب، بل تراكمت أيضًا كخبرة اجتماعية ووجدانية عميقة، تتغذّى على ذاكرة ممتدة من الإقصاء والإهانة. ولفهم الديناميكيات الأشد تعقيدًا للعنف الطائفي المعاصر، لا بدّ من الغوص في طبقات تلك “الذاكرة”، التي صاغت شعور جماعات بأكملها تجاه الدولة والمجتمع.
جذور الطائفية: ذاكرة العار والتهميش التاريخي
لعلّه من الصعب فهم الطائفية في سورية دون التوغّل في الجذور العميقة لما يمكن تسميته بـ “ذاكرة العار(5)“، وهي ليست مجرد سردية مظلومية، بل بناء تاريخي متراكم من الإقصاء والمهانة الاجتماعية والسياسية التي تعرضت لها جماعات معينة، وفي مقدمتها الطائفة العلوية.
يقدم لنا ميشيل سورا، في عمله المهم “سورية: الدولة المتوحشة” واحدة من أقدم الصور حول هذا التهميش، حين وصف كيف لم يكن يُسمح للعلوي بدخول حماة قبل 1914، دون أن يُرشّ عليه الماء الآسن أو يُضرب، وربما يُقتل، ببساطة لأنه علوي. يقول سورا: “قبيل الحرب العالمية الأولى، لم يكن بوسع العلوي أن يمر في شوارع حماة، لأنه سيتعرض للشتيمة وإلقاء المياه الآسنة عليه والضرب وحتى القتل” (6). وقد امتدت هذه الصورة المهينة عبر أجيال، لتغدو جزءًا من الوعي الجمعي العلوي، وتُغذّي لاحقًا استراتيجيات الخوف والانعزال والانكفاء نحو الذات.
ومع انهيار السلطنة العثمانية، لم يختفِ التهميش، بل تحوّل إلى فقر مدقع، وفق ما يؤكده حنّا بطاطو في كتابه “فلاحو سورية: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنا وسياساتهم”، حيث يصف أوضاع الجبال الساحلية بأنها كانت على درجة من الجوع والفاقة، دفعت بعض الأسر إلى تأجير بناتها أو بيعهن لأسرٍ مدينية غنيّة من أجل البقاء (7). ولم تكن هذه مجرد أزمة اقتصادية، بل تجذّر جديد للمهانة وتكرار لـ “استعباد” مجازي جديد للعلويين، في ظل واقع اجتماعي هَرَمي طائفي في المدن السورية الكبرى.
هنا، يبرز دور السياسات الفرنسية في تعميق هذا الانقسام. فمنذ بدء الانتداب الفرنسي عام 1920 حتى نهايته في 1946، انتهجت فرنسا سياسة واضحة تجاه الأقليات، ترتكز على استخدامها في تشكيل تركيبة الجيش السوري. أنشأت سلطات الانتداب ما عُرف بـ “قوات الشرق الخاصة”، وضمت في صفوفها نسبًا مرتفعة من العلويين والدروز والأكراد، مما عزز شعور هذه الطوائف بأنها مدعوة لحماية النظام، مقابل الإقصاء من بقية مفاصل الدولة، في مقابل تهميش سنّة المدن عن المؤسّسة العسكرية.
لكن لا يمكن إلقاء اللوم كاملًا على الفرنسيين، فالمعادلة السورية أكثر تعقيدًا. فقد كان سنّة المدن ينظرون إلى الجيش نظرة ازدراء، باعتباره مجالًا غير محترم اجتماعيًا. ويتضح ذلك في سياسة “البدل” التي سادت قبل عام 1964، حيث كان مسموحًا للسوريين أن يشتروا إعفاءً من الخدمة العسكرية مقابل 500 ليرة سورية، وهو مبلغ كبير آنذاك. وبعد 1964، تم تشديد القيود ورفع البدل إلى 2000 ليرة لحملة الشهادات الجامعية، و1000 ليرة لحملة الثانوية، و600 ليرة لغيرهم (8). هذا التشريع كان له أثر بنيوي خطير: أبناء الريف، من العلويين وسنّة الأطراف الفقراء، لم يكونوا قادرين على دفع هذه المبالغ، وبالتالي أصبح الجيش طريقهم الوحيد للترقي الاجتماعي والدخول إلى الدولة. بهذا المعنى، تشكّلت النواة الاجتماعية الأولى لما سيصبح لاحقًا “الجيش الطائفي”، لا كاختيار أيديولوجي، بل كقدر طبقي – طائفي.
لم يكن هذا الإقصاء حديثًا، حيث يروي سورا أنه حتى عام 1982، حين وقعت مجزرة حماة، تم تدمير حي الكيلانية بالكامل، وهو الحيّ الذي كان “محرّمًا على العلويين قبل 1914” (9). وكأن التاريخ يعيد نفسه، لكن بموازين معكوسة: من المهانة إلى الانتقام، من الإقصاء إلى فرض السطوة.
“ذاكرة العار” والصدمة الجماعية الممتدة تغذّي ما أسماه ابن خلدون بـ “العصبية”، وهي التي، عند تحلل الدولة أو ضعفها، تتحوّل إلى أداة للدفاع، ثم للهجوم، ثم لإعادة تشكيل السلطة على أساس طائفي.
إذن، ما نسمّيه اليوم “الطائفية” ليس فجوة دينية بالمعنى اللاهوتي، بل سلسلة تفاعلات عنف وعنف مضاد، بدأت من التحقير والحرمان، ثم تشكّلت كأداة توازن في ظلّ هشاشة الوطنية السورية منذ الاستقلال، لتتكرّس لاحقًا في بنية السلطة والدولة.
الانتداب الفرنسي: تسليح الخوف وهيكلة التمييز
مع بدء الانتداب الفرنسي على سورية بعد الحرب العالمية الأولى، دخلت البلاد مرحلة جديدة من إعادة التشكيل السياسي والاجتماعي، لكن على أسس طائفية مقلقة. بدلًا من تأسيس دولة موحدة وطنية جامعة، سعت فرنسا إلى حكم البلاد عبر تفتيتها إلى كيانات طائفية ومناطقية، بما يخدم سياساتها الاستعمارية في السيطرة والتحكم.
في هذا السياق، لم يكن لدى الفرنسيين حرجٌ في استغلال ذاكرة العار التي حملها أبناء الأقليات، خاصة العلويين، وتحويلها إلى أداة لضمان الولاء. وبهذا، نشأت “قوات الشرق الخاصة“، التي جُند فيها العلويون والدروز والأكراد، بنسبة تفوق تمثيلهم السكاني، وهي نسبة لم تكن عشوائية، بل تعبير عن سياسة استعمارية ممنهجة. كما يوضح ذلك العديد من الباحثين، كانت هذه القوات عبارة عن نواة جيش تُبنى فيه الثقة بالدرجة الأولى على أساس “الخوف المشترك من المدينة السنّية”، لا على الانتماء الوطني.
كان التجنيد العسكري بمثابة باب الصعود الطبقي الوحيد لأبناء الريف، لا سيّما من الطائفة العلوية. الراتب الثابت، والزي العسكري، والسلطة التي يمنحها الانتماء للمؤسسة العسكرية، كلها عناصر أغرت هؤلاء الشبان الفقراء في الجبال المنسية. أكثر من ذلك، شكّل التجنيد نوعًا من الحماية الرمزية، كما لو أن الدولة، للمرة الأولى، تمنحهم هوية شرعية معترفًا بها في الفضاء السوري.
لكن هذا الامتياز لم يكن بريئًا، إذ رسّخ لدى العلويين وغيرهم من الأقليات شعورًا بأنهم “أبناء الدولة”، وظلّ أبناء المدن السنية، ولا سيما أبناء الطبقة البرجوازية، ينظرون بازدراء إلى الجيش. لقد رأوا فيه وظيفة وضيعة، غير لائقة بأبناء الطبقة المتعلمة أو المالكة. ومما يؤكد ذلك، سياسة “البدل” التي استمرت، وإن باستجابات واعتبارات مختلفة، حتى سقوط بشار الأسد.
كان هذا التشريع الطبقي الطائفي غير المعلن، بمثابة “فرز اجتماعي” داخل بنية الجيش الوليد. الفقراء وحدهم -من العلويين وسنّة الأرياف- كانوا يُجبرون على الالتحاق بالمؤسسة العسكرية. وهكذا، رويدًا رويدًا، بدأ يتشكل وعي جمعي داخل الجيش يقول: نحن المظلومون الذين أصبحنا حُماة النظام، في مقابل نظرة المدينة التي كانت ترى في الضابط العلوي “خارجًا” عن التراتبية التقليدية.
الخطير في هذه المعادلة أن الجيش، الذي يُفترض أن يكون مؤسّسة وطنية جامعة، تحوّل إلى منصة لتكريس التمايز الطائفي والمناطقي. لم يكن الأمر متعلقًا فقط بمن يخدم ومن يُعفى، بل بتكوين هوية نفسية-سياسية لدى الضباط أنفسهم: نحن نحمي الدولة التي لا تحبّنا، ونحتمي بها في الوقت نفسه.
هذه المفارقة زرعت بذور الانفصال لاحقًا بين “الدولة كأداة سلطة”، و”المدينة كجماعة وطنية”. بمعنى آخر، تحوّل الجيش إلى بنية عسكرية هجينة: وطنية من حيث الشكل، وطائفية من حيث التكوين النفسي والاجتماعي.
وبينما استثمرت فرنسا في هذه البنية، لم تُنشئ في المقابل بنية سياسية وطنية متوازنة، بل مارست لعبة التوازنات الطائفية الهشة. أنشأت دولة “العلويين” في الساحل، ومناطق حكم ذاتي للدروز واللبنانيين، واستثنت حلب ودمشق من ذلك التقسيم. هذه السياسات خلقت ما يشبه “الهويات المعزولة”، التي ما إن انسحبت فرنسا، حتى وجدت نفسها متصارعة داخل دولة لم يتم التوافق أصلًا على شكلها.
يمكننا القول إذن إن الانتداب الفرنسي لم يبتدع الطائفية من لا شيء، لكنه نظّمها، ورفعها إلى مستوى البنية المؤسسية. أسس جيشًا من الأقليات، وأغفل الهوية الجامعة، وشجّع صعود “الضابط القروي المهمّش”، على حساب “المدني الحضري السنّي”. وهذا ما جعل مرحلة ما بعد الاستقلال لا تبدأ من توازن وطني، بل من صراع كامِن بين “الأمن الريفي” و”المدن القديمة”.
والأخطر أن هذا الصراع، كما سنرى لاحقًا، لم ينتهِ بتحرير البلاد من الفرنسيين، بل استمر ليكون القاعدة غير المعلنة لكل انقلاب لاحق، وكل توسع طائفي-أمني داخل بنية السلطة.
الجيش بعد الاستقلال: صعود العسكر من الهامش إلى بنية السلطة
مع رحيل الفرنسيين عام 1946، ورثت الدولة السورية مؤسسات هشة من حيث البنية الوطنية، وأهمها الجيش. كان يُفترض أن يصبح هذا الجيش رمزًا للوحدة الوطنية، لكنه سرعان ما تحوّل إلى منصّة صعود اجتماعي غير متكافئ، خاصةً للفئات الريفية والمهمّشة، وعلى رأسها العلويون وسنّة الأطراف. وهنا، تحديدًا، يبدأ التحوّل العميق من “خدمة الدولة” إلى “امتلاكها”.
وعلى الرغم من أن التجنيد الإجباري فُتح للجميع، فإن قانون “البدل” العسكري ظلّ أداة تفاضلية حاسمة بين أبناء المدن والأرياف. يشرح حنّا بطاطو، كما أسلفنا قبل قليل، أن القانون أتاح لأبناء الطبقات الميسورة أن يشتروا إعفاءهم من الخدمة مقابل مبالغ مالية، ما يعني أن من خدموا فعليًا في الجيش كانوا أبناء الطبقات غير القادرة على الدفع.
هذه السياسة الاقتصادية كانت بمثابة مصفاة طبقية وطائفية غير معلنة، دفعت العلويين وسنّة الفلاحين -من أمثال أبناء دير الزور وسهل الغاب- إلى الانخراط الكثيف في الجيش، ليس بدافع وطني فحسب، بل لعدم وجود بديل اقتصادي آخر. وهكذا، بدأ يتشكل نوع من التمايز “الوظيفي” داخل الدولة: المركز السياسي في المدن السنية، والمركز الأمني والعسكري في الريف.
لكن المفارقة أن هذا الانخراط الريفي -العلوي خصوصًا- في الجيش لم يكن مجرد تحصيل حاصل، بل كان مؤطرًا بثلاثة عوامل حاسمة جعلت من الضابط العلوي أكثر قدرة على الصعود في المؤسسة العسكرية من غيره:
- التنسيق القروي والعائلي المتماسك: كان الضباط العلويون، القادمون من بيئات متقاربة اجتماعيًا ومناطقيًا، يمتلكون نوعًا من التضامن الداخلي، ساعدهم في بناء شبكات داخل الجيش. بعكس الضباط السنّة الذين كانوا يأتون من مدن مختلفة ومن خلفيات متباينة، غالبًا ما تنقسم على أسس أيديولوجية أو سياسية.
- الانسجام الأيديولوجي: العديد من الضباط السنّة انقسموا بين ناصريين، شيوعيين، إسلاميين، أو قوميين، مما أضعف كتلتهم داخل المؤسسة العسكرية. أما الضباط العلويون، فكانوا أكثر ميلًا للانخراط في الحزب الواحد -البعث- بوصفه منصة لتحقيق الاندماج السياسي والاجتماعي.
- إرث تنظيمي من عهد القوات الخاصة: منذ فترة الانتداب، اكتسب الضباط العلويون خبرة تنظيمية وعسكرية تفوق أقرانهم، بفضل خدمة آبائهم وأقاربهم في “قوات الشرق الخاصة”، مما منحهم أسبقية في التدرج القيادي والبقاء في مراكز النفوذ.
هذه العوامل مجتمعة أدت إلى تعاظم الحضور العلوي في مفاصل الجيش الحساسة، لا من باب المؤامرة، بل من واقع اجتماعي–سياسي تشكّل تدريجيًا. وقد وصل هذا الأمر إلى ذروته في انقلاب 8 آذار 1963، حين سيطرت “اللجنة العسكرية” البعثية على السلطة، وكانت بكاملها -كما يؤكد بطاطو- من “طوائف مبتدعة”، أي من غير السنّة التقليديين، ومن خلفيات ريفية وفلاحية (10).
ويضيف بطاطو، في الصفحة المشار إليها آنفا، أنه “عشية انقلاب آذار، لم يكن الضباط السنّة -ومعظمهم من أصول ريفية أيضًا- يشكلون سوى 20 % من تركيبة اللجنة العسكرية”، ما يوضح حجم التحول الجذري في بنية السلطة الجديدة، من المدن إلى الأرياف، ومن السنّة إلى الأقليات.
إن ما حدث هنا ليس مجرد تمكين أقلية، بل ولادة ديناميكية سلطوية جديدة، تقوم على التماثل بين “الجيش” و”الطائفة”، وبين “الأمن” و”الهوية”، حتى دون أن يُعبَّر عن ذلك بشكل مباشر. هكذا، وبشكل غير واعٍ في كثير من الأحيان، تحوّلت المؤسسة العسكرية إلى قناة لإعادة تشكيل الدولة على أسس طائفية مضمنة، لا مُعلنة.
والنتيجة أن المدن التي همّشت الجيش طويلًا استيقظت على سلطة منبثقة من داخله، لكنها لا تُشبهها، ولا تتحدث لغتها الاجتماعية أو الطبقية أو السياسية. هنا بدأ الشرخ الأخطر في التاريخ السوري الحديث: دولة ذات وجه عسكري–ريفي، تُدير مجتمعًا مدنيًا–مدينيًا يزدريها ولا يثق بها.
من دفاع الجماعة إلى هندسة الدولة
لم يكن الضباط العلويون الذين دخلوا دمشق بعد انقلاب 1963، ومن ثم 1970، مشروع “طائفة حاكمة” جاهزة أو متعمدة. بل كانوا نتاج تحولات تاريخية–اجتماعية دفعتهم إلى الواجهة، وأُجبروا على التماهي مع الدولة كوسيلة للبقاء، ثم لاحقًا، كأداة سيطرة. بمعنى آخر، لم يدخلوا من “باب الطائفية” وإنما من “نافذة الجيش”، لكن سرعان ما أدركوا أن الدولة الموروثة -الهشة والممزقة سياسيًا- لا يمكن حكمها إلا بأدوات غير تقليدية.
في هذا السياق، ووفقًا لتحليلات بطاطو، تحوّل الخوف الجماعي المتجذر في الذاكرة العلوية إلى بنية سلطة جماعية، تعمل على ثلاثة مستويات رئيسية: الأمني–العسكري، السياسي–الحزبي، والاقتصادي–الريعي.
1- المستوى الأمني–العسكري: المخابرات كجهاز وقائي للطائفة والنظام
منذ وصول الأسد الأب إلى السلطة في 1970، بات واضحًا أن الأجهزة الأمنية ستصبح العمود الفقري للنظام. وقد بُنيت هذه الأجهزة على أساس ولاءات شخصية وعائلية، وليس مؤسسية، ما جعلها -كما يصفها ميشيل سورا- بمثابة “قلب الدولة الوحشي”. تمت تعبئة أجهزة مثل المخابرات الجوية، والأمن العسكري، والأمن السياسي، بعناصر معظمها من خلفيات علوية، لا بوصفهم ممثلين لطائفتهم، بل باعتبارهم الضمانة الأقرب للولاء الكامل للرئيس.
هنا، لم تعد الطائفة مجرد هوية اجتماعية، بل تحوّلت إلى معادل أمني، فكل عنصر علوي في الفرقة الرابعة، أو في أحد فروع الأمن، كان بمثابة خليّة داخل بنية وقائية تمتد لحماية “رأس النظام”، وفي العمق، لحماية الجماعة من السقوط.
2- المستوى السياسي–الحزبي: البعث كغطاء إيديولوجي للشرعية
في ظاهر الأمر، حافظ حزب البعث على شعاراته القومية والاشتراكية، واستمر في لعب دور “الحزب القائد للدولة والمجتمع”، وفقًا لدستور 1973. لكن الحزب، في الممارسة الواقعية، تحوّل إلى أداة لتأميم الحياة السياسية والاجتماعية. كان الحزب يجنّد كل من يريد وظيفة أو موقعًا، ويستقطب الطلاب والمثقفين والعمال، ويُفرض على مؤسسات الدولة، لكن دون أن يمتلك سلطة حقيقية. وفي هذا السياق، غدا البعث واجهة شرعية لسلطة أمنية عائلية/ طائفية، تستخدم أدوات الحزب وشعاراته القومية كستار سياسي، لكنها تحتفظ بآليات القوة الحقيقية داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تدار بشكل منفصل، غالبًا من قبل ضباط علويين مرتبطين بدائرة الأسد العائلية.
وإن دلّ ذلك على شيء، فهو على أن الطائفية في سورية لم تكن تُمارس كأيديولوجيا طائفية دينية، بل كأداة وظيفية داخل شبكة الدولة العميقة.
3- المستوى الاقتصادي: شبكات الظل والريع والتوزيع الزبائني للثروة
في الاقتصاد، لم يكن من الممكن بناء طبقة بورجوازية تقليدية جديدة، خاصة مع خطاب “الاشتراكية” والمصادرة التي شهدها عهد البعث. لكن مع الوقت، تشكلت شبكات اقتصادية مرتبطة مباشرة بالأجهزة الأمنية والعسكرية، منها ما يتصل بالموانئ، والتهريب عبر الحدود، وتجارة النفط، والمقاولات، وأموال الدعم الخارجي. ولم يكن الضباط العلويون هم المسيطرين الوحيدين على هذه الموارد، لكنهم كانوا الحلقة المفصلية في إدارتها، مما خلق ما يمكن تسميته بـ “اقتصاد الريع الطائفي”، أي توزيع الثروة وفق الولاء، لا الكفاءة أو الموقع الاقتصادي.
هذه البنية خلقت تبعية اقتصادية واجتماعية شديدة للنظام، ليس فقط داخل الطائفة العلوية، بل بين الطوائف والمناطق الأخرى أيضًا، بحيث أصبح “سوق الولاء” هو السوق الوحيد القائم.
تحليل ختامي:
ما نراه هنا ليس “نظامًا طائفيًا”، بمعناه الكلاسيكي، بل نظام دولة “مُطيفنة”، أي توظف الانتماء الطائفي كأداة لضبط شبكة السلطة والخوف والولاء. وبالتالي، فإن الطائفية لم تعد فقط “حالة دفاع”، بل غدت نمط حكم، وآلية استقرار، ومنظومة ضبط للمجتمع. وهذا ما يفسّر كيف تحوّلت “السلطة العلوية” من رد فعل على الإقصاء، إلى بنية تنتج الإقصاء في شكل معكوس.
ولادة الطائفية المضادّة: المدن السنّية بين الاحتجاج والثأر
عندما بدأت السلطة السورية، بعد انقلاب البعث، وتحديدًا في عهد حافظ الأسد، تأخذ شكلًا أكثر تماسكًا، كان المجتمع السني التقليدي، ولا سيما في المدن الكبرى كـ حماة، حلب، ودمشق، يراقب المشهد بقلق متزايد. لم يكن الاعتراض فقط على تركيبة السلطة الأمنية والعسكرية، بل على ما بدا أنه انقلاب هائل على التراتبية الاجتماعية التقليدية التي حكمت سورية منذ العهد العثماني.
فجأة، وجد تجار المدن، والعلماء الدينيون، والطبقات الوسطى، أنفسهم أمام بنية سلطوية جديدة تُمركز القوة في يد نخبة عسكرية–أمنية معظمها من الريف، وغالبيتها الساحقة من الطائفة العلوية. هذه الصدمة السياسية والاجتماعية لم تبقَ حبيسة التذمّر، بل تحوّلت تدريجيًا إلى خطاب طائفي صريح في بعض الأوساط السنّية، خاصة ضمن التيار الإسلامي.
الإخوان المسلمون و”علْوَنة الدولة”
في هذا السياق، بدأ صعود الإخوان المسلمين كقوة معارضة ليس فقط للنظام، بل أيضًا لما اعتبروه “علْوَنةً للدولة”. اعتبروا أن الدولة السورية خرجت من أيدي “أهل السنّة” الذين كانوا يشكّلون الأغلبية الساحقة، لتقع بيد “أقلية طائفية تسيطر على الجيش والأمن والاقتصاد”. وقد عبّرت وثائق وبيانات الطليعة المقاتلة (الجناح العسكري الأكثر تشددًا من الإخوان) عن هذا الخطاب بوضوح، حيث أصبح العنف موجهًا نحو “الضباط العلويين” بوصفهم رموزًا للهيمنة. وهكذا، بدأت تتشكّل الطائفية المضادة، ليس كردّ سياسي على الاستبعاد، بل كخطاب تعبئة شعبوي يحمل في طياته الرغبة بالانتقام واستعادة “التوازن المفقود”.
دورات “العنف الطائفي”
لم يبقَ هذا الخطاب على الورق. فقد شهدت البلاد دورتين أساسيتين من العنف الطائفي، شكّلتا لحظتين مفصليتين في بناء وعي طائفي مضاد، وتعزيز إحساس الأقلية بالحصار، وهما:
-الطليعة المقاتلة ومجزرة مدرسة المدفعية (1979 -1981)
أبرز أحداث هذه الفترة كانت مجزرة مدرسة المدفعية في حلب عام 1979، عندما اقتحمت مجموعة من “الطليعة المقاتلة” المدرسة العسكرية، وقتلت 32 طالبًا، وجرحت نحو الخمسين، غالبيتهم من العلويين. وكانت هذه أول مرة يُستهدف فيها العسكري العلوي، بوصفه رمزًا سياسيًا وطائفيًا، لا مجرد خصم في نظام سياسي.
هذه الهجمة لم تكن موجهة ضد النظام كسلطة، بل ضد طائفة بعينها، بما يحوّل الطائفية من أداة خفية في البنية إلى ميدان صريح للعنف.
– مجزرة حماة وتدمير حيّ الكيلانية (1982)
في شباط/ فبراير 1982، كانت القمة الدموية لهذا التوتر. انطلقت انتفاضة مسلحة في مدينة حماة، المعقل التاريخي للإخوان المسلمين، وتم قمعها بوحشية غير مسبوقة من قبل سرايا الدفاع وفرق الجيش، ما أسفر عن مجزرةٍ راح ضحيتها عشرات الآلاف من المدنيين، وتدمير أحياء كاملة من المدينة. اللافت أن من بين الأحياء التي دُمّرت كان حي الكيلانية، الذي يُعتبر رمزًا لتاريخ الطائفية في المدينة، إذ كان -بحسب ميشيل سورا- الحيَّ الذي لم يكن يُسمح للعلوي بدخوله قبل 1914، من دون أن يتعرض للإهانة أو القتل. وكأن ما جرى عام 1982 كان ردًّا مؤلمًا ومركبًا على ماضٍ طويل من التهميش، فانتقمت الدولة -بقيادة نخبتها العلوية- من المدينة التي كانت ذات يوم رمزًا لإقصاء الطائفة.
“حلقة الخوف المتبادَل”
هذه الأحداث عمّقت، على نحو خطير، شعور الطائفة العلوية بالحصار والتهديد الوجودي. أصبح الخطاب الداخلي يتحدث عن “خطر الإبادة”، وتحوّلت الدولة من مشروع قومي إلى أداة لحماية الجماعة. وفي المقابل، انتشر داخل المدن السنية خطاب يقول بأن “الجيش طائفي، والنظام طائفي، والبلد مخطوف”، مما ولّد لدى الجانبين عقيدة أمنية وهوياتية قائمة على الخوف. وقد سمّى بعض الباحثين هذه الظاهرة بـ “حلقة الخوف المتبادَل”، وهي دائرة مفرغة يتغذى فيها الخوف من الآخر على سلوك الآخر ذاته: “كل عنف من طرف يُقابله خوف مضاعف لدى الطرف الآخر، يدفعه إلى مزيد من العنف الدفاعي، الذي يُقرأ كعدوان هجومي”. وهذا هو تعريف الانهيار الكامل لأي تعايش اجتماعي حقيقي.
خلاصة هذه المرحلة
إن الطائفية المضادّة لم تنشأ كخيار سياسي ناضج، بل كردّ فعل اجتماعي وديني–هوياتي على صعود بنية سلطوية غير مألوفة. والخطير أنها لم تتوجه فقط ضد النظام، بل ضد طائفة بعينها، مما فجّر البنية الوطنية نفسها. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد من الممكن الحديث عن دولة سورية بالمعنى المتعارف عليه، بل عن منظومة خوف طائفي متبادل، تُعيد إنتاج نفسها عند كل أزمة.
2011 وما بعدها: الطائفية كهوية أمنية وشعار لحرب أهلية
حين اندلعت الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، كان الحراك في بدايته سلميًا، مدفوعًا بمطالب سياسية واجتماعية واقتصادية. وشارك فيه سوريون من مختلف الطوائف، مطالبين بالحرية، العدالة، والمواطنة. لكن، في بنية سياسية وأمنية هشّة ومطيفة، ومع ذاكرة جماعية محمّلة بالخوف والدم، لم تكن الثورة لتظلّ “مدنية وسلمية” طويلًا.
من مظاهرة إلى حرب هويات
مع توسّع الاحتجاجات، واجهها النظام بالعنف الممنهج، وسرعان ما أعاد تنشيط بنيته الأمنية الطائفية كأداة دفاع أولى.
تمّت عسكرة الثورة، لا فقط بالسلاح، بل بالخطاب:
- السلطة رأت في الحراك محاولة لإسقاط النظام العلوي.
- المجتمع السنّي المُحتجّ رأى في القمع تأكيدًا للطبيعة الطائفية للنظام.
دخل الطرفان في لعبة “التسمية والهوية”، حيث أصبحت الطائفة مرادفًا للتهديد أو النجاة، وفق الجهة التي تقرأ.
تراجع الدولة إلى حدودها الطائفية
مع تصاعد الصراع، بدأت شبكة الحماية التي بناها النظام منذ السبعينيات بالارتداد نحو شكلها الأولي: الطائفة.
- تراجعت سيطرة الدولة إلى مناطقها الأكثر ولاءً، وعلى رأسها القرى العلوية في الساحل، التي تحوّلت من “مناطق نفوذ” إلى خنادق دفاع.
- أعيد توزيع الجنود من أبناء هذه المناطق على الفرق المقاتلة الأشد فتكًا، خاصة الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري.
وفي المقابل، بدأت بعض الأحياء السنّية في المدن الكبرى ترفع شعارات مثل “العلوي إلى التابوت”، أطلقتها فصائل جهادية متطرفة (11).
إن ظهور هذه الخطابات، حتى وإن كان محدودًا في البداية، عزّز شعور العلويين بأن الثورة ليست حراكًا شعبيًا، بل مشروع تصفية طائفية.
الجهاديون والطائفية المسلّحة
من أخطر التحوّلات التي وقعت بين 2012–2014، كان صعود الفصائل الجهادية ذات الأجندة الطائفية الصريحة مثل جبهة النصرة، ثم تنظيم الدولة (داعش)، وبدرجة أقل تنظيمات إسلامية أخرى، كجيش الإسلام بقيادة زهران علوش. وهذه الجماعات اعتبرت النظام “نُصَيريًا كافرًا”، وأعلنت صراحةً نيتها تطهير سورية من العلويين والشيعة. وصار مشهد مقاتلين يحملون رايات سوداء ويهتفون بهتافات طائفية أمرًا متكررًا في تسجيلاتهم ومنشوراتهم الإعلامية. وعلى الرغم من أن هذه التنظيمات لم تُمثّل جميع المعارضة، فإن حضورها الكثيف في المشهد العسكري والمعنوي للثورة أفسد سرديتها الوطنية، ومنح النظام حجة إضافية لتأكيد خطابه بأن البديل عنه هو “دولة تكفيرية سنّية”.
تدخلات إقليمية بطابع طائفي
تحوّلت سورية إلى ساحة صراع طائفي إقليمي، حيث دعمت إيران وحزب الله اللبناني النظامَ، تحت لافتة “حماية المقاومة والمقامات”، لكن على أساس طائفي معلن:
- مقاتلو حزب الله انتشروا في مناطق ذات حساسية طائفية، كـالقصير، والزبداني، ثم في عمق ريف حلب ودمشق.
- من جهة أخرى، حصلت المعارضة المسلحة على دعم من دول خليجية، غالبًا تحت دوافع مذهبية مضادة، مما غذّى الانقسام أكثر.
وهكذا، لم تعد الحرب مجرد نزاع داخلي، بل أصبحت حرب هويات طائفية مدعومة ومُمَوّلة من الخارج، حيث تصطدم “هلالات النفوذ” الشيعية والسنّية في أرض سورية.
الطائفية كمعيار للأمان أو التهديد
في خضمّ هذا الانفجار، أصبحت الهوية الدينية هي البوصلة الأولى للحياة والموت:
- الانتماء إلى طائفة معينة يعني أنك في خطر في مكان ما، وآمن في مكان آخر.
- بات الناس يُوقفون على الحواجز ويُسألون عن انتمائهم الطائفي؛ الاسم الأول أو لهجة الكلام يمكن أن يحدد مصيرك.
بهذه الدرجة من التطييف، تم تفريغ “الهوية الوطنية السورية” من معناها كليًا، واستُبدلت بـ “بطاقات هوية طائفية” غير مكتوبة، لكنها تحكم كل شيء: من الأمان، إلى الغذاء، إلى الحماية، إلى القتل.
تحليل نهائي للمرحلة:
يمكن القول إن ما بدأ كثورة ضد نظام سلطوي، تحوّل إلى انفجار هائل لطائفية مكبوتة، كانت مزروعة في بنية الدولة والمجتمع، لكن النظام بوحشيته، ومعه المعارضة، ساهما في تفجيرها. وفي هذه المرحلة، لم تعد الطائفية مجرد مشكلة بنيوية، بل تحوّلت إلى “لغة الحياة اليومية”، وإلى بندقية محمولة في يد الجميع. وهكذا، دخلت سورية مرحلة الطائفية الكاملة، حيث لم تعد الطائفة مجازًا سياسيًا،بل وسيلة وجود أو فناء.
الطائفية كدورة قابلة للإيقاف
كما رأينا، الطائفية في سورية لم تُخلق دفعة واحدة، بل تكونت عبر حلقات متراكبة من:
- الإذلال العثماني
- التمييز الفرنسي
- الاحتكار البعثي
- الأمن العائلي
- ثم العنف المتبادل
وما لم يُكسر هذا التراكم البنيوي عبر إجراءات واضحة ومباشرة، فإن أي محاولة لإعادة بناء سورية ستكون مجرّد هدنة هشة، سرعان ما تنهار عند أول أزمة اقتصادية أو أمنية.
كسر الحلقة في ظل النظام الجديد: هل الطائفية انتهت بسقوط الأسد؟
لطالما اعتُبرت الطائفية في سورية لصيقةً بنظام الأسد، خصوصًا في شكله الأمني–العسكري تحت قيادة حافظ الأسد، ثم في صيغته الأكثر رعبًا في عهد بشار الأسد، حيث اندمجت الأجهزة الأمنية والعسكرية بشبكات الولاء الطائفي، لا سيما العلوي. لكن مع سقوط النظام القديم وصعود قيادة جديدة ذات خلفية سنية جهادية -أحمد الشرع- ومع قبول دولي متصاعد لهذا التغيير، تطرح المرحلة الجديدة سؤالًا محوريًا: هل انتهت الطائفية بسقوط نظام الأسد؟ وهل يمكن فعلًا بناء نظام وطني، لا طائفي، بعد عقود من التطييف البنيوي؟ أم أننا أمام إعادة تدوير للطائفية بصورة معكوسة؟
سقوط النظام لا يكفي… الطائفية بنية لا شخص
إن تفكيك الطائفية لا يتحقق بسقوط بشار الأسد وحده. فالنظام السابق، وإن كان طائفيًا في بنيته وممارسته، لم يخترع الطائفية من فراغ، بل ورثها من التاريخ العثماني، واستثمرها بذكاء سياسي وأمني منذ السبعينيات. ومن ثم، فإن رحيل الأسد لا يزيل بالضرورة وظيفة الطائفة في بناء السلطة. وقد تكون الطوائف -في لحظة فراغ السلطة، كما حصل بعد 2011- أكثر ميلًا إلى الانغلاق والانكفاء. ولذلك، فإن النظام الجديد -مهما كانت نيّاته- سيكون أمام اختبار حقيقي: هل سيبني سلطة سياسية جامعة؟ أم سيعيد إنتاج الطائفية من موقع الأكثرية هذه المرة؟
أحمد الشرع… السُنّة في مركز السلطة: فرصة للإنصاف أم خطر التماثل العكسي؟
يأتي أحمد الشرع إلى سدة الحكم كرمز لمرحلة انتقالية، بدعمٍ إقليمي ودولي، وبخلفية سنية جهادية كانت يومًا على هامش الدولة. لكن هنا بالضبط تكمن الخطورة:
- إذا تحوّل النظام الجديد إلى أداة “لتصحيح” التوازن الطائفي السابق، عبر التمكين السني المفرط، فإن الطائفية ستُستنسخ، لا تُنهى؛ لكن بلون مختلف.
- وإذا فُهِم سقوط الأسد على أنه “انتصار سني”، فإن ذلك يعني تكريس منطق المحاصصة والانتصار الطائفي بدل تجاوزه.
بالتالي، فإن النظام الجديد أمام مسؤولية تاريخية، ليس فقط في “حكم ما بعد الأسد”، بل في تفكيك إرث الطائفية كوظيفة حاكمة للدولة السورية منذ الاستقلال.
التحديات الثلاثة في ظل النظام الجديد
يجب أن تدرك القيادة الجديدة وكل السوريين أن نزع فتيل الطائفية لا يمرّ عبر “حوارٍ لاهوتي”، بل عبر ثلاث مساراتٍ متوازية:
1- تفكيك الامتيازات الأمنية لا تحويلها
يجب ألا تكون الأجهزة الأمنية الآن بيد طائفة “منتقمة”. المطلوب أمن جمهوري، لا طائفي، لا انتقامي. والمؤسسات الأمنية لا بد أن:
- تخضع لمجلس مدني–رقابي
- تمثّل السوريين بمختلف أطيافهم
- تنبني على المهنية لا الهوية.
والتحذير هنا واضح: استبدال الطائفية العلوية بأخرى سنية هو انتحار سياسي للمستقبل السوري.
2- عدالة انتقالية دقيقة لا تصفية جماعية
العلويون كانوا، ولا يزالون، مواطنين سوريين. بعضهم ارتكب جرائم، لكن معظمهم أُسِرَ داخل منظومة أمنية لا يملك خيار الخروج منها. العدالة الانتقالية يجب أن:
- تُحاكم المجرمين بأسمائهم وأفعالهم
- تُبرّئ الأبرياء من جرائم النظام السابق
- تؤسس لمفهوم جديد للعدالة: عدالة فردية، لا طائفية.
إذا أُعطي للعلويين الانطباع بأن النظام الجديد يسعى للثأر لا للمصالحة، فإنهم سينكفئون مجددًا، وقد ينزلقون إلى عنف مضادّ.
3- تنمية متوازنة، لا تصحيح مُسيّس
لا يجب أن تتحوّل التنمية إلى وسيلة “لردّ الدين” للمناطق السنية فقط.
- ريف اللاذقية وطرطوس يحتاج كما يحتاج ريف دير الزور والرقة ودرعا؛
- الأحياء العلوية الفقيرة في حمص ليست مسؤولة عن جرائم ماهر الأسد.
المطلوب هو هندسة اقتصادية وطنية، لا “تنمية انتقامية”.
الخاتمة: هل كانت الطائفية قدَرًا؟ قراءة ختامية في وظيفة الخوف والسياسة
عند النظر إلى مسار الطائفية في سورية، يغدو من السهل الوقوع في فخّ التفسير القَدَري: أن الطائفية كانت دومًا حتمية، تسكن الوعي السوري، تنبع من تاريخه العثماني، وتتغذّى من تنوّعه الديني. لكن تحليل الوقائع، كما رأينا عبر الفقرات السابقة، يكشف عكس ذلك تمامًا: الطائفية لم تكن قدَرًا، بل صُنِعت كوظيفة، واستخدمت كأداة.
منذ “ذاكرة العار” التي حملها العلويون في العهد العثماني، إلى تجنيدهم القسري/ الفرصي في عهد الفرنسيين، إلى استيعابهم في الجيش في ظل سياسة “البدل” التي أقصت أبناء المدن بإرادتهم، وصولًا إلى البنية الأمنية التي شكّلتها عائلة الأسد من الخوف الجماعي، كل ذلك يقول إن الطائفية لم تكن مشروعًا أيديولوجيًا بقدر ما كانت استراتيجية بقاء، ثم سلطة.
ولأنها بُنيت على الخوف، فقد كانت دومًا قابلة للتفجير والانفجار. وكلما تأزّم الوضع السياسي أو الاقتصادي أو الإقليمي، استُدعيت هذه البنية الطائفية مجددًا، كما لو أنها “كرت طوارئ” تلجأ إليه الدولة، أو المعارضة، أو المجتمع نفسه.
سقوط الأسد… لحظة تفكيك أم فرصة لإعادة إنتاج الطائفية؟
سقوط نظام بشار الأسد كان، من حيث الشكل، سقوطًا لطائفية علنية قادتها نخبة أمنية–علوية. لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا، فمع صعود نظام أحمد الشرع -بصفته سنّيًا جهاديًا سابقًا، يحظى بقبول دولي- فإن سورية اليوم لا تقف أمام لحظة “تحرّر من الطائفية”، بل على مفترق طرق:
- إما استكمال مشروع وطني جامع، يتجاوز الطوائف والهويات الصغيرة نحو الدولة والمواطَنة.
- أو الانزلاق إلى نسخة عكسية من الطائفية، هذه المرة بقيادة الأكثرية، تحت عنوان “العدالة التصحيحية” أو “ردّ الاعتبار”.
وفي هذا السياق، لا بد من استدعاء التاريخ لا لتبرير الطائفية، بل لفهم منطقها. العلويون، كما يروي ميشيل سورا، كانوا في موقع العار والنبذ. ثم، كما يوضح حنا بطاطو، وجدوا في الجيش الخلاص الوحيد من الجوع والبيع القسري لبناتهم. ثم، مع حافظ الأسد، وُظّف هذا المسار إلى حدّه الأقصى، فتم تحويله إلى بنية دولة، لا إلى شفاء جماعة.
فما بدا لاحقًا “طائفية هجومية” هو في الأصل ردّ فعل جماعي على قرون من الاستبعاد، استثمرته السلطة لتثبيت نظامها الشخصي. وهنا مربط الفرس: الخوف، حين يُوظّف، يتحوّل إلى عنف. والعنف، حين يُؤدلج، يُصبح طائفية.
هل هناك بديل؟ وهل يستطيع النظام الجديد أن يتجاوز الطائفية؟
نعم، هناك بديل واقعي، لكنه يتطلب إرادة سياسية، وإدراك تاريخي، وخطاب جامع. ولن يأتي هذا البديل من الدساتير وحدها، ولا من الشعارات الكبرى، بل التأكيد مرارًا وكرارًا:
- بناء مؤسسات أمنية لا طائفية.
- عدالة تفصل بين الجناة والطوائف.
- تنمية توزّع الثروة بعدالة، لا محسوبيات.
- إعلام ولغة سياسية تخرج من معجم “الأكثرية والأقلية” إلى معجم “المواطن/المواطنة”.
هذا هو “تفكيك الطائفية كوظيفة”، لا مجرد “رفض الطائفية كخطاب”.
وفي الختام، الطائفية في سورية لم تكن لعنة مفروضة من السماء، ولا قدرًا دينيًا، بل كانت دومًا وظيفة اختارتها السلطة، وصدّقتها المعارضة، واستسلم لها المجتمع حين افتقد الأمان. واليوم، بسقوط الأسد، وسقوط قناع “الطائفة الحاكمة”، لا يزال الخطر قائمًا، إن لم يُسقِط النظام الجديد هذه الوظيفة نفسها. فالتغيير الحقيقي لا يبدأ من “اسم الحاكم”، بل من نمط حكمه.ولا يُقاس بديانة الرئيس، بل بقدرته على تفكيك الخوف، وإعادة بناء الثقة، على قاعدة المواطَنة، لا الطائفة.
المراجع
السياف، أحمد نهاد. شعاع قبل الفجر: مذكرات. تقديم وتحقيق محمد جمال باروت. إصدار خاص، 2005.
بطاطو، حنا. فلاحو سورية: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم. ترجمة عبدالله فاضل ورائد نقشبندي. الطبعة الأولى. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014.
سورا، ميشيل. سورية الدولة المتوحشة. ترجمة مارك سارة ومارك بيالو. الطبعة الأولى. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017.
[1] أحمد نهاد السياف، شعاع قبل الفجر، مذكرات، تقديم وتحقيق محمد جمال باروت، (إصدار خاص، 2005). ص 18.
[2] محمد علي العابد رئيس الجمهورية السورية (1932-1936). الموسوعة الدمشقية، تاريخ المشاهدة في 17/6/2025، في: https://short-link.me/14RaJ
[3] أحمد نهاد السياف، مرجع سابق، ص 23، 183-185.
[4] يقول الباحث السوري جمال باروت، محقق الكتاب، في مقابلة له على قناة العربية: ما جذب أقصى اهتمامي بالمذكرات هو أنها تقدم سرديةً مختلفةً حرفياً ومئة بالمئة عن السردية شبه الرسمية التي نشرتها الحكومة بعد إعدام المرشد وعن مرسوم اتهام الحكومة المرشد وتحديد القضايا المقصود بإسنادها إليه لمحاكمته بتهمة الخيانة العظمى. فما تقوله مذكرات السياف هو سردية أخرى تماماً يبرز فيها المرشد كضحيةٍ أوقعت الدسائس البريطانية وحقد خصومه من إقطاعي اللاذقية المتنفذين الذين تواطأت معهم الحكومة به، فيقول لنا السياف أن المرشد لم يقم بالعصيان على الدولة في أول العهد الوطني الفتي بل نصبت له الحكومة من خلال المحافظ عادل العظمة كميناً اوقع به لم يرد عليه المرشد واختار الاستسلام على المقاومة، وانه لم يعارض شروط التحكيم لحل قضايا الخلاف بل قيلها اخيراً كلها، وانه لم يكن عميلاً لفرنسا كما صورته الدعاية المضادة بل احتفل بعيد الجلاء، وانه كان حريصاًَ على التعاون مع الحكومة بينما الحكومة كانت تترصد التخلص منه كي تؤدب به زعماء الأقليات الآخرين وفي مقدمتهم سلطان باشا الأطرش. لقد قارنت للتو ما بين سردية السياف وبين السردية الرسمية وشبه الرسمية ولاحظت بشكلٍ أكيدٍ أن هناك فصلاً تراجيدياً في التاريخ السوري الحديث مسكوت عنه لدواعٍ إيديولوجية أو وطنجية تحجب التاريخ الاجتماعي وتمنع من البحث فيه. https://short-link.me/-O2H
[5] تُستخدم في العلوم الاجتماعية، خاصة في دراسات ما بعد الصراع (مثل رواندا، البوسنة، جنوب أفريقيا)، وتعني أن جماعة كاملة تشعر بالإذلال التاريخي فتطور عقيدة دفاعية أو انتقامية.
[6] ميشيل سورا، سورية الدولة المتوحشة، ترجمة مارك سارة، مارك بيالو، الطبعة الأولى (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017)، ص 55.
[7] حنا بطاطو، فلاحو سورية: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنا وسياساتهم، ترجمة عبدالله فاضل، رائد نقشبندي، الطبعة الأولى (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)، ص 93.
[8] المرجع السابق، ص 305.
[9] سورا، مرجع سابق، ص 55.
[10] بطاطو، مرجع سابق، ص 283.
[11] علاوة على الشعارات التي عبّّرت عن منحى طائفي، ك «العلويين إلى التابوت والمسيحيين إلى بيروت»، هدد الشيخ العرعور، أوائل 2012، بقتل العلويين المعارضين للثورة، ورمي جثثهم للكلاب، فضلا عن تهديدات لنواب وسياسيين معارضين من على المنابر الفضائية، كالنائب السابق مأمون الحمصي. أيضا انتشر فيديو يصور أحد مقاتلي لواء الفاروق من الجيش الحر (أبو صقار)، وهو يمضغ قلب ضابط علوي، آذار/ مارس 2013.