الردع المتبادل والهيمنة: قراءة في الحرب الإسرائيلية – الإيرانية وتداعياتها الجيوسياسية

شهدت الفترة، بين أعوام 2023-2025، تصعيدًا متسارعًا في المواجهة بين إسرائيل وإيران، انتقل خلالها الصراع من الحروب بالوكالة إلى الاشتباك المباشر، فقد شكل هجوم “حماس”، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بدعم إيراني، نقطة تحوّل مفصلية، إذ أعقبه تصعيد متزامن على جبهات عدة، أبرزها تحركات حزب الله اللبناني والفصائل الإيرانية في سورية والعراق، إلى جانب الحوثيين في اليمن، وردّت إسرائيل بسلسلة ضربات ضد مواقع الحرس الثوري ووكلائه، وامتدت ضرباتها إلى الداخل الإيراني، ومنها استهدف منشآت طاقة، مثل تفجير أنابيب الغاز، في شباط/ فبراير 2024.
وفي نيسان/ أبريل 2024، بلغت المواجهة ذروتها مع استهداف إسرائيل مبنًى يستخدمه الحرس الثوري قرب سفارتها في دمشق، تلاه ردّ إيراني واسع عبر أكثر من 300 صاروخ وطائرة مسيّرة، وقد تصدّت إسرائيل للهجوم بدعم دولي، وردّت باستهداف دفاعات جوية في أصفهان، ما أكد تحوّل الاشتباك إلى مواجهة عسكرية مباشرة. ثم تصاعَد التوتر لاحقًا مع اغتيال إسماعيل هنية، في طهران في تموز/ يوليو 2024، ثم محاولة استهداف حسن نصر الله في بيروت في أيلول/ سبتمبر، ما دفع إيران إلى إطلاق موجة جديدة من الصواريخ، مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، قابلتها إسرائيل بضربات عميقة داخل إيران، أبرزها في 26 تشرين الأول/ أكتوبر، حتى وصلت إلى الحرب المفتوحة.
- دوافع العملية العسكرية الإسرائيلية: السياق والتوقيت والمحددات الأمنية
يبدو أن اتخاذ إسرائيل قرار تنفيذ الضربة العسكرية ضد إيران، في 13حزيران/ يونيو عام 2025، جاء نتيجة لحسابات استراتيجية دقيقة، وتوقيت مدروس، حيث تشير مصادر إسرائيلية إلى أن العملية خضعت للتخطيط منذ عدة أشهر[1]، ونُفذت في لحظة وُصفت بأنها مواتية من الناحية الميدانية والسياسية، حيث جاءت قبل يومين فقط من موعد اجتماع كان مقررًا لمفاوضات إيرانية أميركية حول الملف النووي، في سلطنة عُمان، وقد ألغي مع بدأ التصعيد.
ولطالما اعتبرت الحكومة الإسرائيلية البرنامج النووي الإيراني تهديدًا وجوديًا لا يمكن التساهل معه، وبناءً على هذه الرؤية [2]، ربما رأى صانعو القرار في إسرائيل أن أي تقدم دبلوماسي في المفاوضات حول النووي قد يمثل فرصة لإيران لكسب الوقت وتعزيز قدراتها التقنية والعسكرية.
- تفكيك القيادة العليا: أوسع حملة جوية إسرائيلية داخل إيران
تُعدّ هذه الحملة الجوية أوسع عملية إسرائيلية ضد أهداف داخل إيران، حيث تميّزت بامتداد جغرافي غير مسبوق، شمل مواقع من الغرب حتى أقصى الشرق والشمال، في تطور لافت في مدى العمليات وجرأتها[3]، ومن أبرز محطاتها استهداف مطار مشهد، على بُعد 2300 كيلومتر، وقاعدة مهر آباد قرب طهران، إضافة إلى منشآت للحرس الثوري في كرمنشاه، ما يؤكد أن العملية استهدفت عمق البنية العسكرية والإستراتيجية الإيرانية، وليس فقط المواقع النووية.
خريطة الضربات الجوية الإسرائيلية في عمق الأراضي الإيرانية (13–18 حزيران/ يونيو 2025)


للاطلاع على الخريطة بدقة عالية من خلال الرابط
إلى جانب ذلك، نُفّذت ضربات مباشرة على منشآت نووية ومراكز تخصيب حساسة، فقد تم تدمير المفاعل التجريبي لإنتاج الوقود ضمن مجمع نطنز، الذي يُستخدم لتخصيب اليورانيوم بنسبة تقارب 60%، ما يُعدّ ضربة استراتيجية لقدرات إيران في المجال النووي، وضربت الغارات منشآت لتحويل المواد النووية في مدينة أصفهان، ما يشير إلى تنسيق مدروس لاستهداف البنية التحتية النووية الحيوية.
أما على المستوى البشري، فقد عكست الخسائر التي تكبّدتها إيران الطابع الكبير للهجوم، إذ أظهرت معلومات استخباراتية وتقارير ميدانية أن العملية أدت إلى مقتل عدد كبير من كبار القادة الصف الأول من الحرس الثوري الإيراني، فقد لقي ستة جنرالات على الأقل مصرعهم، إلى جانب أكثر من عشرين ضابطًا رفيع المستوى، واستهدفت الهجمات أيضًا عددًا من العلماء النوويين داخل منازلهم، ما يدل على الطابع الدقيق والنوعي للعملية، وفيما يلي أبرز الأسماء التي نالتها الضربة[4].
جدول (1) أبرز الشخصيات والقيادات الإيرانية التي استهدفتها الضربات الإسرائيلية (13–17 حزيران/ يونيو 2025)


تُعدّ هذه الخسائر استثنائية في تاريخ المواجهات الإقليمية، إذ أُزيل القائد العام للحرس الثوري ورئيس هيئة الأركان الإيرانية في ضربة واحدة، ما يعادل تفكيك قمة الهرم العسكري دفعة واحدة، ولم تكن مجرد عملية استهداف، بل حملة دقيقة هدفها شلّ القيادة العليا، حيث إنها أسقطت عمليًا أحد أعمدة الردع الإيراني، كاشفة هشاشة الرهانات على الحصانة الاستراتيجية.
- الرد الإيراني والخيارات العسكرية والأمنية
توزّعت الأهداف الإيرانية على مناطق عدة في الداخل الإسرائيلي، لا سيّما في الشمال وتحديدًا حيفا، وفي الوسط، خصوصًا تل أبيب، وتسببت الضربات في اندلاع حرائق وأضرار مادية في منشآت استراتيجية، منها ميناء حيفا، ومصفاة نفط قريبة [5]، وشمل الاستهداف مناطق سكنية، حيث سقطت صواريخ أو شظاياها على مبانٍ مدنية، في تطور يعكس تحوّل الرد الإيراني إلى استهداف مزدوج ذي طابع عسكري ومدني. ومع ذلك، اعتمدت إسرائيل منظومات اعتراض متقدمة، نجحت في التصدي لعدد كبير من الصواريخ والطائرات المسيّرة، حيث جرى اعتراض نسبة كبيرة من المقذوفات، ما حدّ من مستوى الخسائر البشرية والمادية، وعلى الرغم من نجاح الدفاعات الجوية، فإن الهجمات تسببت بإصابات متعددة؛ فحتى فجر 19 حزيران/ يونيو سُجلت نحو 75 إصابة في تل أبيب، بفعل صواريخ ومسيرات وصلت لأهدافها، أو شظايا ناتجة عن الاعتراضات، في حين قُتل مدنيان وأصيبَ عشرون آخرون في مدينة ريشون لتسيون [6]، وفي ضاحية بات يام جنوب تل أبيب، فقد أسفرَت إحدى الضربات عن مقتل أربعة مدنيين وإصابة ما يقارب مئة آخرين. لكن عسكريًا، حافظت إسرائيل على جاهزيتها، ولم تتأثر قواعدها الجوية، وبدا أنها قادرة على احتواء الهجوم. وعلى الرغم من محدودية الأثر الميداني للضربات، فإن اتساع نطاق الاستهداف من جانب إيران منح ردها بعدًا رمزيًا غير مسبوق.
في المقابل، غابت المشاركة الفعلية لحلفاء إيران، إذ التزمت ميليشيات العراق و”حزب الله” الحذر، في حين كانت جماعة الحوثي الطرف الوحيد الذي شارك ميدانيًا [7]، عبر هجمات صاروخية ومسيّرة، تم اعتراضها بالكامل. هذا المشهد يكرّس التفوق العملياتي الإسرائيلي، ويعكس حدود الرد الإيراني في ظل تردد الحلفاء وقوة الدفاعات الجوية المعادية.
- أثار الصراع الإسرائيلي-الإيراني أمنيًا على سورية
منذ فجر 13 حزيران/ يونيو 2025، برز الجنوب السوري مجددًا كساحة للتوتر المتصاعد بين إيران وإسرائيل، في ظل تصعيد واضح للعمليات الجوية بين الطرفين فوق الأراضي السورية، تمثل باعتراض سلاح الجو الإسرائيلي الصواريخ والمسيرات الإيرانية في الأجواء السورية، وقد شملت تداعيات هذه المواجهات عددًا من المحافظات، من درعا والقنيطرة جنوبًا، وصولًا إلى ريف طرطوس غربًا، ما يعكس اتساع رقعة التأثر السوري بهذا الصراع الإقليمي، رغم عدم انخراط دمشق كطرف مباشر فيه. ولعلّ استمرار استخدام الأجواء السورية، كساحة عمليات متبادلة بين الطرفين، لا يقف عند تعرّضها لمخاطر آنية فقط، بل ينذر بمجموعة من التحديات بعيدة المدى:
– انتهاك السيادة الوطنية: فالاختراق المتكرر للمجال الجوي السوري من قبل طائرات وصواريخ، من دون أي تنسيق رسمي أو إذن مسبق، يُعدّ انتهاكًا صارخًا لسيادة الدولة السورية.
– تهديد مباشر للأمن القومي والمدني: حيث يُشكّل التحليق الكثيف للمسيّرات والصواريخ فوق الأراضي السورية، وما يرافقه من عمليات اعتراض، خطرًا مباشرًا على حياة المدنيين، كما يتسبب بأضرار للممتلكات الزراعية والبنية التحتية.
– تعطيل الحركة الجوية المدنية: فالاضطرار إلى إغلاق المجال الجوي، بسبب هذه المواجهات، أدّى إلى إرباك حركة الطيران، وتسبّب بخسائر اقتصادية ملموسة في قطاع النقل الجوي.
اقتصر الردّ السوري على إغلاق جزئي للمجال الجوي، من دون مرافقة بخطاب سياسي أو دبلوماسي واضح، وعلى الرغم من تبنّي الحكومة السورية لمبدأ “الحياد الإيجابي” منذ إسقاط نظام الأسد، فإن استمرار استخدام أجوائها كساحة اشتباك يتطلب تحركًا أكثر تماسكًا، يشمل توضيح الموقف رسميًا، وتقديم مذكرات احتجاج حول الانتهاكات المتكررة، إضافة إلى تعزيز التنسيق مع الشركاء الإقليميين والدوليين لضمان تحييد المجال الجوي السوري عن مسارات التصعيد، وتطوير مقاربة متوازنة، تدمج بين الإجراءات الفنية والتحرك السياسي، حيث بات هناك ضرورة ملحة للحفاظ على السيادة وتقليل المخاطر المتزايدة على السكان.
- قراءة في متغيرات الشرق الأوسط وإعادة تشكيل المنطقة
لا تخفي إسرائيل نيتها بإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وفق ديناميات جديدة تتناسب مع الظروف الجديدة ومصالحها، وتفكيك المعوقات التي تقف في وجه رؤيتها، بعدما استطاعت التخلص من أطر الردع المتقدمة الإيرانية، حيث تنحصر التغييرات بالوجود السياسي وطبيعته، وليس في الحدود الجغرافية السياسية، ومن أبرز سمات هذا التغيير تراجع حضور فاعلين سياسيين على حساب أخرى، في حين تبقى المواقف الأميركية الإسرائيلية والتركية تجاه الحرب على إيران هي الأكثر أهمية وتأثيرًا على الحرب؛ لأسباب متعلقة بتقاسم النفوذ في الإقليم، وتربط إسرائيل الحرب على إيران بتفكيك المخاطر الأمنية المستمرة والحواجز المعرقلة لمشروعها، لكنها تأتي ضمن سياق طويل من التحريض السياسي المتبادل، ليحمل الصراع شكلًا من التعبئة الأيديولوجية تبعًا لخلفية الدولتين، وطريقة تشكّل أنظمتهم السياسية. وتتقدم نظرية الأمن كمحدد أساسي واضح في الصراع المشترك، ومتعلق بالصراع على “تسيّد المنطقة”، إذ لم تعد ترى تل أبيب بفائض قوتها أنه من المناسب أن تشاطر قوى معادية لها الإقليم، تحت أي سبب أو ذريعة، وذلك بعدما استطاعت تفتيت “جيوبولتيك المقاومة” أو ما يسمّى وكلاء إيران في المنطقة.
وتستغل إسرائيل الرؤية الأميركية الجديدة تجاه المنطقة الخاصة بالسلام والمشاريع الاقتصادية الكبرى، لذلك جاء الدعم الأميركي للعمل العسكري الإسرائيلي، عقب استنزاف كل الحلول الدبلوماسية مع طهران، وذلك كجزء من سياسات ردعية قد تؤدي إلى تحقيق جملة من التفاهمات مع إيران من جديد، بشأن الملف النووي، وتستغل واشنطن الحماسة الإسرائيلية والرغبة الشخصية لدى نتنياهو، لتحقيق هدفها وهو تفكيك الترسانة النووية والأمنية بشكل كامل؛ حيث يرى ترامب في اتفاق العام 2015 اتفاقًا مذلًا وغير مقبول. ومن هنا، يتضح أن سبب تلك الرؤية الأميركية يعود إلى اختلاف شكل الصراع على المجال الإقليمي، وفقدان إيران لحضورها الوكالي عبر الردع المتقدم في المنطقة، وفي ظل سيطرة إسرائيلية على إيقاع الضبط والتحكم وفق مصفوفة مصالحها الخاصة ورغبة “تسيد الإقليم” الذي يبقى العنوان العريض للحرب.
ويبدو أن إسرائيل ترى أن النظام الإقليمي الجديد لا بدّ أن يتمحور حولها عبر حسم الأمن كمحدد إسرائيلي مركزي محصور بها تتحكم في ديناميته وفق مصفوفة الأهداف المتغيرة وفق كل مرحلة ومتطلباتها، وذلك عبر إعادة تعريف مفهوم السيادة على مستوى دول المنطقة ضمن نطاق أوسع “الهيمنة الإسرائيلية الإقليمية” التي تصنعها إسرائيل بدعم مطلق من قبل أميركا، مع إعادة توزيع الأدوار والفرص الاقتصادية بين دول المنطقة، كما في حال السعودية وتركيا، وهذا يجعل إسرائيل فاعلًا ما فوق دولتي ” Supra-State Actor” بصفتها الضابط الوحيد لإيقاع الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط.
وتسعى إسرائيل عبر الحرب على إيران لترسيم حدود الشرق الأوسط كنفوذ وفواعل، لا كجغرافيا، وإعادة تشكيله التزامًا بعقيدتها الأمنية، ويواجه المشروع الإيراني تآكلًا متزايدًا في أدواته الوكيلة، مما دفعه نحو الانخراط في مواجهة مكشوفة، رغم المساعي المستمرة للتفادي، لكن تراجع القدرات الردعية وتوفر الفرصة المناسبة أفسحت المجال أمام إسرائيل لشنّ حرب تنهي حساب التوازنات التقليدية التي حكمت الشرق الأوسط لعقود.
- الموقف الأميركي من الحرب الإيرانية الإسرائيلية: الميل نحو السلام بالقوة
يدور الهدف الأميركي إلى إعادة تعريف الدور الإيراني ضمن الشرق الأوسط الجديد، وذلك عبر إعادتها إلى حدود فعاليتها داخل حدودها، وسلبها الجوانب الفعالة من إمكانياتها ضمن المجال الإقليمي[8]، عكس إسرائيل التي ترى أنّه لا سبيل للقضاء على البرنامج النووي الإيراني إلا عبر إسقاط وتغيير النظام السياسي في إيران كحل وحيد ونتيجة نهائية للحرب، وقد أكد ذلك نتنياهو في مناسبات عديدة بإشارته على أن الطريق الوحيد لإنهاء الحرب على طهران هو اغتيال المرشد الأعلى، وقد أظهرت مصفوفة الأهداف وطبيعة الاستهداف، بعد يومين من بدء العمل العسكري، نية إسرائيلية تغيير النظام الإيراني عوضًا عن إعادة تعريف دوره وفق الرغبة الأميركية، وقد ربطت الإدارة الإسرائيلية الحرب على إيران “بالتهديد الوجودي”.
يبرز هنا التباين الأميركي الإسرائيلي، حيث تستخدم واشنطن إسرائيل من أجل تفكيك البرنامج النووي، ولم يُخف ترامب رغبة الطرفين في استنزاف بعضهم البعض وصولًا إلى حل نهائي، وفي ذات التوقيت يتحفظ الرئيس ترامب على التدخل العسكري المباشر، رغم الضغط الإسرائيلي الكبير الذي يمارسه نتنياهو، والذي ربط استهداف تل أبيب باستهداف واشنطن، في محاولة لإعادة ترسيخ السردية التقليدية الأميركية “أمن إسرائيل من أمن الولايات المتحدة الأميركية”، عكس ترامب الذي يرى أن المصالح الأميركية هي قبل أيّ دولة “أميركا أولًا”.
ويشي عدم التدخل العسكري الأميركي -لحد الآن- بعدم قناعة ترامب بضرورة إسقاط النظام الإيراني، والحذر من الانجرار خلف رؤية نتنياهو التي تتسم ببعد شخصي يتعلق بهدفه السياسي منذ توليه الحكم في القضاء على النظام الإيراني، وذلك من أجل استذكاره كبطل قومي إسرائيلي ورفع رصيده السياسي داخل المجتمع الإسرائيلي الذي يراه شخصية جدلية.
ويرتفع احتمال التدخل الأميركي لصالح إسرائيل في الحرب، إمّا في انخراط شامل أو ضربات محددة في حال عدم رضوخ إيران للمطالب الإسرائيلية والأميركية، حيث ترى واشنطن نفسها أمام خيار التدخل لصالح إسرائيل، وذلك تخوفًا من أي حرب استنزاف تضرّ بالمصالح الأميركية، لأنها تعكس -بشكل أو بآخر- ضررًا لسردية الحرب، وذلك كلما تأخر الحسم في تدمير الترسانة النووية والصاروخية أو إجبار إيران للعودة للتفاوض وفق الشروط الأميركية.
يميل ترامب تجاه تثبيت محددات “نزع الأمن”، عبر تحقيق رؤيته حول مشروع السلام، باستخدام الدبلوماسية القصوى، وضرورة عدم التخلي عن حل الإشكاليات الأمنية عبر الحوار، ويحاول الحفاظ على دور الوسيط من أجل نزع مبررات خلق الإشكاليات الأمنية التي تهدد السلام، وإن نزوعه تجاه الانخراط في الحرب عبر فرض السلام بالقوة Peace Through Domination” [9]“، كجزء من استراتيجيته في مواجهة إيران وكوريا الشمالية في فترة ولايته الأولى، قد يعني التخلي الجزئي عن السردية المركزية، على الرغم عن تلميحه باستخدام القوة من أجل السلام ضمن نظرية “الواقعية الهجومية”[10].
يحاول نتنياهو جعل إسقاط النظام الإيراني السبيل الوحيد لتفكيك السلاح النووي، على أمل نيل قبول الرئيس الأميركي الذي أكد رفضه لتغيير النظام. لهذا، تتعامل طهران بحذر مع المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، وتحصر استهدافها في نطاق تل أبيب، إدراكًا لطبيعة نظامها البراغماتية، وسعيًا للحفاظ على خيار التفاوض مع واشنطن، لأن خسارته قد تدفع ترامب إلى تبني رؤية نتنياهو بشأن البرنامج النووي.
وتعتبر واشنطن أن بقاء النظام الإيراني، رغم عدائها له، يضمن ضبط الديناميات وفق قواعد جديدة، كونه نظامًا قابلًا للتفاوض خلافًا للمليشيات غير المنضبط، في المقابل، تحاول إسرائيل دفعها نحو تبني عقيدتها الأمنية، في حين تسعى واشنطن لجعل إسرائيل تتكيف مع استراتيجيتها الأوسع لتحقيق الاستقرار.
- الحذر والترقب التركي: الانعكاسات على النفوذ والمصالح
تدرك تركيا أن إضعاف إيران قد يفتح لها فرصًا في التفاعل مع نمط جيو-أمني جديد، لكن إخراج إيران من التنافس مع إسرائيل يزيد من حذرها، إذ يشكّل هذا الصراع أحد مصادر فعاليتها الإقليمية، ولا سيما في العراق وسورية وقبرص وليبيا، حيث تُعد القوة الثانية بعد إيران ذات النفوذ العابر للحدود.
تتخوف تركيا من الهيمنة الإسرائيلية الكاملة على المنطقة، بكون الوجود الإيراني كان يخلق مجالًا من التنافس على مجال التحكم في الشرق الأوسط، ويمنع الاستفراد الإسرائيلي المطلق في المصالح الأمنية، ومن ثم قد يؤدي القضاء على الفعالية الإيرانية إلى فقدان فرص الصعود الإقليمي، عبر استغلال الصراع الثنائي الذي بطبيعة الحال يخلق فرص وهوامش للحركة والتوسع، وسيحصر فضاء التنافس ضمن إسرائيل وحدها بعدما كان متعددًا، وهذا يعني تكثيف التركيز على مجال أنقرة الجيوسياسي في المنطقة العربية، لا سيما في المناطق التي تشهد عدم توافق وتشابك مصالح كما في سورية؛ الساحة التي شهدت آخر صدام تركي-إسرائيلي غير مباشر قبل الحرب الإسرائيلي-الإيرانية[11].
إنّ حسم الحرب على إيران لصالح إسرائيل قد يعني عودتها للتركيز على سورية، لكن هذه المرة بمحددات أكثر جرأة تتمثل في إعادة تعريف قواعد الاشتباك التي ما زالت تشهد حوارًا مكثفًا في أذربيجان بين البلدين بوساطات إقليمية متعددة ولا سيما في ظل ارتفاع الحديث عن “ممر داوود”، الذي يساعد تل أبيب في التحكم بالمشهد السوري بشكل كامل، والذي ترفضه أنقرة.
وتدرك أنقرة خطورة انعكاسات حرب إيران على مصالحها ضن نطاق مجال اهتمامها، لذلك سارع الرئيس أردوغان، في اتصال هاتفي مع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، إلى تأكيده على ضرورة عدم الانخراط في الحرب الدائرة لصالح أي من الأطراف، وذلك استمرارًا للسياسة التركية التقليدية “الحياد الإيجابي”، وفي الوقت ذاته، يدرك الرئيس التركي مخاطر تلك الحرب، حيث أعاد تعريف حدودها عندما أكد أنها لا تدور حول نزع الاتفاق النووي، مشيرًا إلى ارتباطها بإعادة تعريف موازين القوة باستخدامه لمصطلح “الحرب الخبيثة”، وربط ما يجري بقدرات تركيا الردعية، وذلك عبر تأكيده أنّ بلاده تخطط لرفع مخزون الصواريخ المتوسطة والطويلة المدى إلى مستوى الردع.
وعلى الرغم من العلاقة الإيجابية بين ترامب وأردوغان في الملف السوري، تخشى تركيا من نظام إقليمي جديد يعزلها ويمنعها من الاستفادة من الثروات، خصوصًا في شرق المتوسط، ويهدد مصالحها، وتبقى هذه المخاوف مشروعة رغم صعوبة تحققها، نظرًا لدور تركيا وتحالفاتها وهويتها السياسية وقدراتها المرتبطة بنظرية الأمننة.
- السيناريوهات المحتملة للنزاع الإيراني-الإسرائيلي “تصعيد مُراقب أم صراع شامل؟”
مع تصاعد الضربات المتبادلة بين إيران وإسرائيل، يمكن لحظ مزيج من الردع الاستراتيجي، رغم التفوق الإسرائيلي الواضح، مما يفتح الباب أمام عدة سيناريوهات متشابكة، وهي:
السيناريو الأول – المرجح: تهدئة مشروطة وتصعيد مُتحكم به تمهيدًا للعودة إلى التفاوض
إذا اكتفت إيران بالردود الصاروخية والمسيّرة المحدودة دون توسيع التصعيد، وواصلت إسرائيل ضرباتها المركزة دون استهدافات سيادية أو توسيع جغرافي، فذلك يعني التزامًا غير معلن من الطرفين بعدم الانجرار إلى مواجهة شاملة، واستمرار هذا التوازن يفتح المجال أمام التهدئة، خصوصًا مع وجود وساطات خليجية وأوروبية، ويبقى الملف النووي محور هذا السيناريو؛ فاستعداد طهران لتقديم تنازلات أو قبول رقابة دولية قد يدفع نحو استئناف التفاوض، في حين يؤدي تمسكها بموقفها الحالي إلى إعادة التصعيد، ونجاح هذا السيناريو مرتبط بقدرة الطرفين على ضبط التصعيد وربط التهدئة بمسار تفاوضي فعلي يرضي واشنطن، ما يعيد الأزمة إلى مستوى الصراع القابل للاحتواء دون انهيار كامل لمسار الحوار.
السيناريو الثاني – وارد لكن مكلف: تصعيد شامل واستنزاف طويل الأمد
إذا قررت إيران تعميق ردها، فقد تتجه نحو تهديد الملاحة في مضيق هرمز والبحر الأحمر، ما ينقل النزاع إلى صراع اقتصادي وأمني، يتجاوز الحدود التقليدية، وعلى الرغم من تآكل فعالية “محور المقاومة”، فإن خيار تفعيل الأدوات الإقليمية، ولو بشكل محدود، يبقى مطروحًا في حال قررت طهران الذهاب نحو مواجهة شاملة.
في حال تحقق هذا السيناريو، ستدخل المنطقة في حالة استنزاف متعدد الجبهات، يشمل الهجمات البرية والبحرية وربما السيبرانية، مع غياب أفق تفاوضي، وستكون إسرائيل أمام تحديات أمنية ممتدة، وقد تضطر الولايات المتحدة إلى التدخل لحماية طرق الملاحة ومصالحها الاستراتيجية، وهذا التصعيد، رغم كلفته، قد تلجأ إليه إيران إذا شعرت أن التصعيد المحدود فشل في تحقيق أهدافها، أو إذا رأت أن بنيتها السياسية باتت مهددة بشكل مباشر، ما يفتح الباب أمام مواجهة يصعب احتواؤها.
وفي حال تطور التصعيد إلى مواجهة شاملة ومفتوحة، لا يمكن استبعاد احتمال سقوط النظام الإيراني، إلا أن تحقق هذا الاحتمال يظل مرهونًا بعوامل عديدة، أبرزها مدى تماسك الجبهة الداخلية، واستمرار الدعم من الحلفاء الإقليميين، وحدّة الضربات الموجّهة إلى مراكز الثقل السياسي والعسكري داخل إيران.
السيناريو الثالث – استمرار الوضع على ما هو عليه
يفترض هذا السيناريو بقاء الوضع العسكري والسياسي على حاله، دون تصعيد كبير أو تهدئة فعلية. أي أن تستمرّ إسرائيل في تنفيذ ضربات نوعية محدودة داخل إيران وعلى أطراف نفوذها الإقليمي، من دون توسيع كبير في بنك الأهداف أو تغيير قواعد الاشتباك، وأن تواصل إيران الرد بشكل رمزي عبر إطلاق دفعات محدودة من الصواريخ والطائرات المسيّرة من دون تغيير نوعي في الاستراتيجية.
هذا السيناريو يحاكي حالة “شبه الحرب”، حيث يُبقي كل طرف على مستوى معين من الضغط العسكري والسياسي، دون الذهاب إلى مواجهة شاملة أو العودة الجدية إلى طاولة التفاوض. من شأن هذا الوضع أن يُبقي المنطقة في حالة توتر دائم، مع احتمالية اشتعال جبهة أو أكثر، نتيجة خطأ حسابي أو عملية غير متوقعة. وعلى الرغم من ضعف احتمالية هذا السيناريو فإنه قد يكون خيارًا مؤقتًا في ظل غياب توافقات إقليمية أو دولية.
قد يبدو هذا السيناريو “أقل كلفة” على المدى القصير، إلا أن استمراره لفترة طويلة قد يخلق حالة إنهاك تدريجي للبنية السياسية الإيرانية. ففي ظل الحصار الدولي، وتصاعد العزلة، واستمرار الضربات النوعية، قد تبدأ ملامح التآكل في مركز القرار الإيراني، سواء من خلال تراجع قدرة النظام على فرض هيبته داخليًا، أو ازدياد حالة التململ الشعبي من الحرب المفتوحة غير المتوازنة، ما يجعل استمرار هذا السيناريو تهديدًا بنيويًا صامتًا للنظام أكثر من كونه خيارًا آمنًا.
تعَدّ الحرب الإيرانية-الإسرائيلية المحطة الفاصلة في إعادة تشكيل الفواعل في الشرق الأوسط من جديد، حيث بات كلٌّ من الدولتين على قناعة تامة بأن لحظة التغير قد حانت، وأنه لا مفرّ من إعادة رسم قواعد القوة والهيمنة الجديدة في الشرق الأوسط. وعلى هذا الأساس، تعمل إيران على إدارة الخسارة التي مُنيت بها، عبر البحث عن الفرص التي من شأنها أن تعيد لها حضورها على المستوى الإقليمي، حيث تجاوز اعتقاد التغيير الإيراني مستوى الانزياح في القوى الجيوسياسية إلى التغيير الشامل، والذي يستهدف النظام الإيراني نفسه عبر برنامجها النووي، والثابت في هذه المتغيرات أنّ إيران بعد الحرب لم تعد إيران نفسها قبلها؛ وذلك في شكل نفوذها وقدراتها وانكشاف ثقلها، بجانب خسارة ردعها المتقدم، وهي تخوض حربها الأخيرة لاستعادة هيبتها الإقليمية، وفي ظل هذه التحولات يظلّ الموقف الأميركي هو الموقف الحاسم الذي يشكّل طبيعة الصراعات ونتيجتها، وقد أثبتت هذه الحرب ذلك؛ فإمّا أن ينزع البرنامج النووي الإيراني ويُبقي لإيران مقدارًا من فاعليتها السياسية المشروطة ضمن محددات محلية، وإما أن يدفع إلى تغير النظام السياسي، في حال أخطأت طهران الحسابات، وفي الحالتين يظلّ الحسم الأميركي يشكّل المصير النهائي.
[1] Israel launches ‘Operation Rising Lion’ on Iran, targeting nuclear and military sites, Times of India, 13 June 2025, https://tinyurl.com/mu8z395p
[2]After years of waiting, Israel’s Netanyahu finally makes his move on Iran, Reuters, 13 June 2025, https://rb.gy/fwm5bn
[3] المعلومات المتعلقة بالضربات الإسرائيلية الواردة في هذا النص والمُبيّنة على الخريطة المرفقة استندت إلى عملية رصد دقيقة ومقاطعة ممنهجة لعدد من المصادر الإعلامية الموثوقة، إضافة إلى تصريحات رسمية صادرة عن جهات إيرانية، ومقاطع مصوّرة، وصور أقمار صناعية، ومواد توثيقية متداولة عبر منصات إخبارية معروفة.
[4]Iranian commanders and nuclear scientists killed in Israeli strikes, Reuters, 16 June 2025, https://rb.gy/33xg4r
[5] تضرر واسع للمباني.. صواريخ إيرانية تسقط على حيفا وتل أبيب، العربية، 16 حزيران/ يونيو 2025، https://tinyurl.com/yc2tux8d
[6] خريطة الرد الإيراني على إسرائيل، أبرز الصواريخ والمواقع المستهدفة، العربي الجديد، 16 حزيران/ يونيو 2025، https://tinyurl.com/4wxxfmk7
[7] الحوثيون يعلنون إطلاق صواريخ باليستية وطائرات مُسَيّرة نحو إسرائيل، CNN عربي، 15 حزيران/ يونيو 2025، https://tinyurl.com/22jftp5r
[8] الحرب الإسرائيلية على إيران والرد الإيراني: من الظل إلى الصدام المباشر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 15 حزيران/ يونيو 2025، الرابط: https://tinyurl.com/3r96ryex
[9] A New National Security Strategy for a New Era, NATIONAL SECURITY & DEFENSE, December 18, 2017, https://tinyurl.com/34uyxyk2.
[10] Mearsheimer, John J. (2001). The Tragedy of Great Power Politics. New York: W. W. Norton.
[11] محمد السكري، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، سورية الجديدة والامتحان الإسرائيلي: من التجاهل إلى دبلوماسية التناظر الإقليمي، 31 آذار/ مارس 2025، الرابط: https://tinyurl.com/yy494hx7.