المقالات

طائفية الغد التي نصنعها اليوم

Reading Time: 1 minute

تنويه:
كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “الأزمة الطائفية في سورية”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.
رئيس التحرير

يمكن الجزم بأنّ الحديث عن الطائفية في سورية تفاقَم منذ اندلاع الثورة، مسنودًا بالعديد من العوامل، في رأسها التعاطي الإعلامي لسلطة الأسد التي واظبت على وصم الثائرين عليها بأوصاف تشي بالطائفية، وإن لم تصرّح بها دائمًا. وفي وقت مبكّر أتت ميليشيات “حزب الله”، وأتى مشرفون من الحرس الثوري وطلائع ميليشيات شيعية أخرى، فرفعوا جميعًا شعارات طائفية صريحة ضد العرب السّنّة. وحدث ذلك مع ارتفاع منسوب الخطابات الطائفية في المنطقة عمومًا، وتزايد الحديث الإعلامي عن الصراع الشيعي-السُّني.

على صعيد متصل، شديد الأهمية والحساسية، تزامن انطلاق الثورة مع دخول السوريين زمن وسائل التواصل الاجتماعي، أي أنهم امتلكوا حرية القول مرتين في وقت واحد؛ الحرية التي أتاحتها الثورة على الأسد، والتخلّص من محرّمات الخوض في الحساسيات الطائفية، وحرية كلّ مستخدم على وسائل التواصل الاجتماعي في قول ما يشاء، بدون تمحيص من أحد، وحيث المعيار في رواج المعلومة بعيد عن التمحيص في دقّتها، وحيث أصحاب الحسابات متحلِّلون من أدنى شعور بالرقابة.

من المؤكد أن وحشية جرائم الأسد لعبت دورًا كبيرًا في تأجيج ردود أفعال طائفية، لكن السرديات الطائفية راحت تروج بما يطابق الغضب من تلك الوحشية، لا بما يطابق الواقع السياسي المتغير. هكذا، بدءًا من أواخر عام 2011، راحت تروج على السوشيال ميديا إعادة قراءة الواقع السوري، وكأنه كان طائفيًا طوال الوقت، وبالمنسوب ذاته، ما يستتبع ضمنًا أن حل المسألة الطائفية لن يكون في السياسة والمواطنة، بل بالهيمنة والإكراه. واليوم، عندما نتحدث في المسألة الطائفية، فالحديث يدور عن وقائع بالتأكيد، وعن مجموعة من الخطابات المحايثة لها، والتي لها دور قد يكون أكبر من الوقائع نفسها في صنع المسألة الطائفية الراهنة.

وفق ما سبق، طائفية الغد هي التي تُصنع اليوم، وليست فقط الطائفية الموروثة حتى من أحداث الصراع السوري الذي تفاقم بعد اندلاع الثورة. برأينا، تتحدد المسؤولية الراهنة عن المسألة الطائفية بدءًا من هذا الفهم، وهو ينطوي على الاعتراف بالانقسامات الطائفية، لكن ليست بوصفها جوهرًا خالدًا للسوريين يتم التطبيع معه، فالتطبيع إنما يكون إذا سلك الطرفُ المنتصر سبيلَ تثبيت الروايات الطائفية التي لعبت دورًا تعبويًا في أثناء الصراع.

لا يخفى أن كثيرًا من الكلام في الموضوع الطائفي لا يزال اليوم يصبّ في المنحى التعبوي، ويتلطّى وراء غياب مشروع جاد للعدالة الانتقالية، ووراء مشروع مماثل للمصالحة. التعفّف عن الانجراف في هذا الاتجاه يصم أصحابه بأنهم بعيدون عن الواقع، أي أن الطائفيين يروّجون لأنفسهم بوصفهم وكلاء حصريين للواقع، ومعظمهم من الناشطين على السوشيال ميديا، ونسبة كبيرة منهم مقيمة خارج سورية، أي بعيدًا عن الاحتكاك الطائفي المباشر. هؤلاء، والعديد منهم مقرَّب من السلطة الحالية، لا يريدون تفكيك الاحتقان الطائفي، وربما لا يملكون الوعي لفعل ذلك.

واحد من المداخل المقترحة هو أن يوضع سؤال (لماذا؟) في بداية الكلام عن الشأن الطائفي؛ لماذا نتحدث في الطائفية اليوم؟ هذا السؤال لا يبدو ماثلًا في معظم الكلام عن الطائفية، وقد نجد كما أسلفنا الكثير مما يعيد تدوير ما هو موجود، ويصنع ما هو أشدّ طائفية. ثمة في الإعلان الدستوري للسلطة فقرة تجرّم التحريض الطائفي، ولم يُعمَل بها حتى الآن، وتطبيق ذلك ملحّ جدًا، مع التنويه بمقدرة السلطة التي تتجاوز الأراضي السورية للتأثير على أنصارها الموجودين على السوشيال ميديا، بوصف الأخيرة حتى الآن فضاءً للإفلات من العقاب.

إذا كان الوصول إلى وطن سوري هو الهدف، فمن الضروري، بدءًا من الآن، التفكير في سردية سورية مشتركة للصراع. ونعلم أن الوصول إلى هذه التسوية يكون عادة في ختام عملية تتضمن العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، إلا أن النقاش في ضرورتها، وفي بعض تفاصيلها، قد يقدّم فائدة للمسار الحقوقي ومسار السلم الأهلي. على سبيل المثال، الاتفاق على تجريم الأسدية قد يكون مدخلًا جيدًا لبناء تلك السردية، من خلال اتفاق أوسع على معنى الأسدية، وعلى مَن هم ضحاياها، بعيدًا عن احتكار موقع الضحية بتدرجاتها المختلفة.

من الضروري، أيضًا، تعزيز فهْم مختلف لموضوع العدالة الانتقالية في سورية، ولن نخوص هنا في المسالك الحقوقية والإجرائية. ما نراه مهمًّا جدًا هو النظر إلى العدالة على أنها إنصافٌ للأبرياء، ولا يقل هذا الأمر أهميّة عن محاكمة المجرمين، والاقتصاص منهم، أو العفو عن بعضهم في النهاية. ما حدث حتى الآن، بعد مضيّ أكثر من ستة أشهر، هو أن مسار العدالة لم يبدأ، في حين يُجرَّم العلويون جميعًا بوصفهم طائفة السلطة البائدة. بهذا المعنى، العدالة الانتقالية هي ضرورة لأولياء الضحايا، من السُنّة على نحو خاص، وضرورة للأبرياء العلويين بالقدر نفسه، لأنهم دفعوا ويدفعون ثمن عمليات انتقام طائفية لا تميز بين الأبرياء ومجرمي الأسد.

لقد كان أهم إنجاز احتُسب للسلطة الجديدة في عملية سقوط الأسد تصرّفها على نحو إيجابي في موضوع السلم الأهلي، لكن الحوادث الطائفية المتفرقة تزايدت، وكذلك حال السلوك غير المنضبط لفصائل منضوية تحت قيادة وزارة الدفاع، وصار مألوفًا في المناطق المختلطة أن يسأل عناصر الحواجز العابرين عن انتماءاتهم المذهبية. وصولًا إلى المجازر الطائفية التي ارتُكبت إثر النفير العام الذي أُعلن بسبب مهاجمة “الفلول” لعناصر من الأمن العام، ومن المؤكد أن المجازر أعادت منسوب المخاوف من انفجار عنف طائفي إلى منسوب مرتفع، لعله يقارب المخاوف التي كانت السلطة السابقة تعززها لدى السوريين، ليروا في بقائها صمّام أمان لهم.

نزعم بأن المجتمعات السورية قدّمت أفضل ما هو متوقّع منها حتى حدوث تلك المجازر، فأعمال الانتقام الفردية، رغم حدوثها هنا وهناك، لم تكن بالكثرة التي تشكّل سياقًا من العنف الطائفي الأهلي. وأثناء مجازر الساحل كان ثمة حوادث معروفة لسُنّة أنقذوا جيرانهم العلويين من القتل، والجيرة هنا لا تقتصر على المعنى المباشر لجهة التجاور في السكن. صحيح أن البعض من المدنيين، من المناطق ذاتها، التحق بالعنف الذي مارسه أولئك الذين استباحوا أرواح وممتلكات العلويين، إلا أن مشاركتهم كانت بتشجيع من جوّ التحريض والحماية التي يوفّرها وجودهم تحت مظلة السلطة، لا بمبادرة خاصة منهم.

لعل هذا يشير إلى مسؤولية كبرى للسلطة، ومن المؤسف أن يكون الأمر كذلك، لأنه ينطوي على الإقرار بواقع مركزية السلطة واستئثارها بالقرار، وتأثيرها تاليًا على الكتلة العددية الأكبر، والتي لا تقتصر على السُنّة. من موقعها هذا، تستطيع السلطة استعادة المناخ الإيجابي الأهلي الذي رافق الفترة الأولى من وصولها إلى دمشق، وعليها الاعتراف بأن السلم الأهلي لا يُصنع بقرار من فوق، وإنما بمشاركة من المجتمعات المحلية التي أظهرت في العموم إيجابية يُبنى عليها. بهذا المعنى، يتعيّن على السلطة “التواضع”، والتخلّي عن عقلية الاستئثار التي نراها في العديد من الأصعدة، وتأثيرها هنا له آثار مدمّرة مديدة.

لا شكّ في أن السلطة في أحسن حالاتها خارجيًا، من خلال الانفتاح السياسي عليها، ومن خلال رفع معظم العقوبات الغربية، أو السير في اتجاه رفعها كليًا مع وعود بتدفق المليارات من أجل مشاريع الإنعاش المبكر. ومن المأمول أن يكون لتحسّن الوضع المعيشي أثر إيجابي على عموم السوريين، وأن يساعد ذلك في تخفيف الاحتقان الطائفي مع التفاتهم إلى مصالحهم العابرة لخطوط الانقسام. الورقة الاقتصادية شديدة الأهمية، إذا أحسنت السلطة استخدامها، أي إذا ساعدت على إطلاق عملية تنمية متوازنة تمحو ما كان من توزيع غير عادل للفرص وللثروة. ونشير هنا إلى أن المظلومية “الاقتصادية” تتجاوز خطوط الاحتقان الطائفي لتأخذ طابعًا مناطقيًا أيضًا، وإثنيًا في بعض المناطق الأخرى.

تعقيد الموضوع الطائفي لا يعود فقط لتعدد الضالعين فيه، وفي صناعته، من قَبْل واليوم. التعقيد يفرض من نفسه من خلال الملفّات المتصلة به، ومنها ما هو أمنيّ، وما يتصل بالعدالة الانتقالية، وبالاقتصاد الذي إذا أُحسِن استخدامه، فسيكون له أثر مستدام على دفع الموضوع الطائفي من عتبة الاحتقان إلى كونه مجرد اختلاف ثقافي، كما هو الحال في مجتمعات تتحقق فيها قيم المواطنة وتكافؤ الفرص.

في ما يخص تحقيق السلم الأهلي في سورية، لم يفت الأوان، لأن الأوان لا يفوت في السياسة متى توفرت النيات. واليوم، ثمة فرصة للشروع في تفكيك الألغام الطائفية التي تراكمت طوال عقود، كما أن هناك فرصة لزراعة ألغام جديدة وصناعة طائفية الغد. وبصرف النظر عن الموقف الإجمالي من السلطة الحالية، فهي مثال جيّد على الاحتمالين، فمن جهة هناك أيديولوجيتها المذهبية بطبيعة الحال، وجمهورها الذي لا يغيب عنه العصَب الطائفي. ومن جهة ثانية، وبسبب العامل السابق، هي في موقع الأقدر على منح تطمينات لمختلف الجماعات السورية التي ستنظر إليها على أنها تصدر عن الأكثر تشددًا. الاتجاه الذي ستسلكه السلطة لن يكون دليلًا إلى المسار الطائفي فحسب، بل سيشير إلى نيّاتها وطبيعتها، وسيشير إلى سورية في المستقبل القريب.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى