من باريس إلى الجولان.. هل تنضج تفاهمات سوريا وإسرائيل؟

عنب بلدي – محمد كاخي
اجتمع وزير الخارجية السورية، أسعد الشيباني، بوفد رسمي إسرائيلي ترأسه وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، في 19 من آب الحالي، بالعاصمة الفرنسية باريس، بوساطة أمريكية تهدف إلى بحث سبل خفض التصعيد وتعزيز الاستقرار في الجنوب السوري.
ركزت المباحثات التي أجراها وزير الخارجية السوري مع وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي على ملفات أمنية وسياسية، أبرزها مراقبة وقف إطلاق النار في محافظة السويداء، وتأكيد مبدأ عدم التدخل في الشأن السوري الداخلي، إلى جانب دراسة تفاهمات ثنائية يمكن أن تسهم في استقرار الأوضاع بالمنطقة الجنوبية، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا).
وشمل النقاش أيضًا، بحسب الوكالة، إعادة تفعيل اتفاق فض الاشتباك لعام 1974، الموقع بين سوريا وإسرائيل برعاية الأمم المتحدة، والذي ينص على الالتزام بوقف إطلاق النار والحفاظ على خطوط التماس دون تغيير.
خفض للتصعيد أم تفاوض استراتيجي
الباحث في الشأن الإسرائيلي ياسر مناع، يرى أن من الصعب الحديث عن عودة كاملة وسريعة إلى اتفاق فضّ الاشتباك، فإسرائيل أعلنت أنها باقية “إلى أجل غير مسمى” داخل ما تسميه مناطق عازلة في سوريا، وربطت أي انسحاب بشروط صارمة مثل نزع السلاح الكامل جنوب دمشق.
وبالرغم من أن تقارير الأمم المتحدة وثّقت الخروقات الإسرائيلية للاتفاقيات الدولية الموقعة بين سوريا وإسرائيل، لا توجد آلية لإجبار إسرائيل على التراجع، وبالتالي، الاحتمال الأقرب هو ترتيبات مرحلية أو جزئية، بينما يبقى الانسحاب الكامل مرهونًا بتغيرات سياسية وأمنية أوسع لا تبدو قريبة، بحسب مناع.
وتميل الحكومة السورية، بحسب المحلل السياسي أيمن الدسوقي، إلى الحوار والدبلوماسية بدعم من حلفائها وتسهيل من شركائها، كأداة لتفكيك الملفات المعقدة إقليميًا المهددة لأمن واستقرار سوريا، وكورقة لاستعادة دور سوريا كفاعل مسؤول في الإقليم.
وبالتالي، يمكن إدراج هذه الاجتماعات في سياق خفض التصعيد وسحب الذرائع عبر التوصل إلى تفاهمات وترتيبات أمنية.
ولدى الحكومة السورية اليوم إدراك لما هو تكتيكي وما هو استراتيجي في مقاربتها التفاوضية بملف الجنوب السوري، فضلًا عن أن تسكين هذا الملف يمنح الحكومة دعمًا إقليميًا ودوليًا، ويتيح لها تعزيز موقفها التفاوضي وقدرتها على إدارة الملفات الأخرى، وفق حديث الدسوقي إلى عنب بلدي.
الدور الأمريكي والموازين الإقليمية
لم يكن اللقاء السوري- الإسرائيلي في باريس ليأخذ هذا الزخم لولا الحضور الأمريكي الذي بدا فاعلًا في رسم ملامح المسار الجديد للعلاقة.
فمنذ أسابيع، تتحرك واشنطن على أكثر من خط، بدءًا من رعاية اجتماع باريس بين الشيباني وديرمر، مرورًا بطرح مبادرة لإنشاء ممر إنساني إلى السويداء، وصولًا إلى لقاءات مباشرة مع القيادات الدرزية في إسرائيل لاحتواء التوتر، وترافقت هذه التحركات مع اجتماعات تمهيدية في عمّان ضمت وفودًا سورية وأردنية وأمريكية.
يرى الباحث والمحلل السياسي لؤي صافي، أن الإدارة الأمريكية تسعى إلى الحفاظ على الاستقرار في سوريا نتيجة لاتخاذ إدارة الشرع موقفًا واضحًا من إيران و”حزب الله”، واستعداد الإدارة السورية الجديدة للدخول في علاقات تعاون مع حلفاء الولايات المتحدة في المشرق العربي.
واعتبر صافي، في حديث إلى عنب بلدي، أن الولايات المتحدة تريد ضم الإدارة الجديدة إلى اتفاقية “أبراهام” التي تشمل، إضافة إلى إسرائيل، أربع دول عربية مشرقية، لكنها تدرك أن مثل هذا الاتفاق غير ممكن في المرحلة الحالية، وهي لذلك لا تمانع الوصول إلى اتفاقية تضع حدًا للعمليات العسكرية التي تقوم بها إسرائيل في الجنوب السوري خوفًا من توسيع رقعة الصراع.
الموقف المرن من الإدارة الأمريكية تجاه الحكومة السورية لا يعني أنها تقف على مسافة واحدة من سوريا و”الكيان الصهيوني”، فالعلاقة الأمريكية- الإسرائيلية عميقة، لأن الجالية اليهودية في أمريكا تمتلك نفوذًا كبيرًا في السياسات الداخلية والخارجية الأمريكية من خلال جماعات الضغط العديدة التي تتبع لها، وفي مقدمتها “اللوبي الصهيوني” (إيباك)، وتمتلك كذلك تأثيرًا كبيرًا في مواقف الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بحسب صافي.
وأضاف أن القيادة السياسية والعسكرية الأمريكية لا تحبذ أن تعزز سوريا علاقاتها العسكرية والتجارية مع تركيا، وتفضّل أن تعطي الشركات الأمريكية دورًا أكبر في التجارة ومشاريع إعادة الإعمار.
ويمكن لهذا الموقف أن يتغير مع تغير المصالح الأمريكية أو إذا تمكنت أمريكا من تحييد الدور الإيراني في المشرق العربي.
مشروع إسرائيل الكبرى وأبعاد الاستيطان
أقدمت مجموعة إسرائيلية تُعرف باسم “رواد الباشان” في 18 من آب، على محاولة التوغل داخل الأراضي السورية في الجولان المحتل، بهدف وضع حجر الأساس لمستوطنة جديدة أطلقوا عليها اسم “نيڤيه هاباشان”.
ورغم تدخل الجيش الإسرائيلي وإحباط العملية، فإن رمزية الحدث تدفع للتساؤل حول صعود خطاب “إسرائيل الكبرى” الذي تحدث عنه نتنياهو، في 13 من آب، لقناة “I24” الإسرائيلية، بوصفه “مهمة أجيال يُسلمها جيل إلى جيل”، وكيف أنه يشعر بأنه في مهمة “روحية وتاريخية” من أجل الشعب اليهودي.
استُخدم مصطلح “إسرائيل الكبرى” بعد حرب الأيام الستة في حزيران 1967 للإشارة إلى إسرائيل، ومناطق القدس الشرقية، والضفة الغربية، وقطاع غزة، وشبه جزيرة سيناء في مصر، ومرتفعات الجولان.
الباحث في الشأن الإسرائيلي ياسر مناع، قال لعنب بلدي، إن ما قام به المستوطنون في الجولان لا يمكن عزله عن المناخ الفكري والسياسي الذي يغذيه خطاب نتنياهو عن “إسرائيل الكبرى”، وبالرغم من تصريحات الجيش الإسرائيلي بأن الحادث “مبادرة فردية” وجرى التعامل معه كخرق أمني، فإن تزامنه مع تصريحات نتنياهو يمنح هذه الخطوات معنى أعمق، ويُظهر كيف يتحول الخطاب الرسمي إلى مصدر إلهام للمجموعات المتطرفة لاختبار الحدود ورسم وقائع ميدانية، حتى وإن لم يكن هناك قرار حكومي مباشر.
وتابع مناع أن الخطوة بحد ذاتها أكثر من مجرد نواة بؤرة استيطانية، وخطورتها تكمن في السياق، فمنذ أواخر 2024 تتمركز قوات إسرائيلية بالفعل داخل الأراضي السورية، وأقامت قواعد ونقاطًا عسكرية في “منطقة الفصل” التي حددها اتفاق 1974، بل وسيطرت على أجزاء من جبل الشيخ الاستراتيجي.
ويخلق هذا الواقع العسكري بيئة تسمح بمبادرات استيطانية من الأطراف الأشد تطرفًا، ويثير الشكوك حول أن التوجه العام في إسرائيل هو تكريس سياسة توسعية تدريجية، حتى وإن أنكرت إسرائيل ذلك رسميًا، بحسب مناع.
كذلك يرى الباحث والمحلل السياسي لؤي صافي، أن حكومة نتنياهو تضغط باتجاه تحييد دور دمشق في الجنوب السوري، وفتح ممرات عسكرية مع السويداء، كخطوة أساسية في مشروع “إسرائيل الكبرى” طويل المدى.
اتفاق أمني في الغرف المغلقة
يتزايد الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية أن اتفاقًا أمنيًا مرتقبًا سيتم عقده بين سوريا وإسرائيل. وبالرغم من نفي وزارة الخارجية السورية وجود أي اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل، خلال زيارة الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، إلى نيويورك في أيلول المقبل، فإن خبراء يرون أن الاجتماعات المتواترة بين سوريا وإسرائيل تتجاوز مسألة السويداء وما يرتبط بها.
يرى المحلل السياسي أيمن الدسوقي، أن السويداء ليست سوى جزء من ملف الجنوب السوري المطروح على طاولة التفاوض بين الحكومة السورية وإسرائيل، والإسرائيليون غير معنيين بالسويداء إلا في سياق ما يخدم رؤيتهم للشرق الأوسط ما بعد “7 أكتوبر” ومصالحهم الأمنية المباشرة، والتي تشكل إعادة صياغة اتفاق “فض الاشتباك” لعام 1974 بداية مدخلها، ليأخذ بعين الاعتبار حقائق ومعطيات مرحلة ما بعد “7 أكتوبر” وما يعنيه ذلك من ترتيبات أمنية متقدمة، بقيود صارمة وضمانات مغلظة.
بينما يرى الباحث والمحلل السياسي لؤي صافي، أن استمرار الصراع بين إسرائيل والأطراف العربية، ومن بينها سوريا، هو المرجح مستقبلًا، لأن الواضح من السياسات الإسرائيلية أن القيادة الإسرائيلية تمضي بهوس متزايد في بناء مشروعها التوسعي مستفيدة من التناقضات الداخلية كما تستغل اليوم ما يجري في محافظة السويداء.
لذلك، يتناقض الحديث عن تعاون عربي- إقليمي- إسرائيلي مع تاريخ الكيان المتعالي على حقوق أبناء الأرض، ومع مصالحها التوسعية التي لا تقف عند حدود فلسطين بل تشمل المشرق العربي برمته، بحسب صافي.
وقد يعطي الإنهاك المجتمعي والعسكري والاقتصادي الذي أصاب إسرائيل خلال سنوات الحرب الأخيرة في غزة فرصة لسوريا في الحصول على فسحة خلال السنوات القليلة المقبلة، لإعادة بناء مجتمعها واقتصادها وجيشها الذي دمره النظام الساقط، بحسب صافي.
وذهب المحلل السياسي أيمن الدسوقي، إلى أن اختبار مدى نجاح اجتماعات باريس في التأسيس لاتفاق جديد بحاجة لمزيد من الوقت، فبالرغم من أنها نجحت مرحليًا وجزئيًا في كسر الجليد، والشروع ببناء بعض الثقة بين الطرفين، فإن استمرارها مرهون بجدية الوسطاء والتزام الطرفين، وعدم التشويش عليها بمسارات تفاوضية بمصالح متضاربة.