اختتام أعمال المنتدى السنوي للدراسات السورية المعاصرة

اختُتمت اليوم في دمشق أعمال الدورة الخامسة من المنتدى السنوي للدراسات السورية المعاصرة، الذي نظمه المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة على مدى يومين، بمشاركة واسعة من باحثين وأكاديميين سوريين وعرب وأجانب. وقد خُصص اليوم الثاني لمناقشة قضايا الحوكمة والتعليم والنقابات والدولة، إضافة إلى تحولات النخب المثقفة والمجتمع المدني، وصولًا إلى ملفات الأمن والعسكرة والمساعدات الإنسانية.
التعليم والنقابات والبنى التحتية في سياقات ما بعد النزاع
استهل اليوم الثاني أعماله بالجلسة الرابعة برئاسة لين عيسى، أستاذة ورئيسة لقسم الإذاعة والتلفزيون في كلية الإعلام في جامعة دمشق، وطُرحت أوراق بحثية عدة منها ورقة بعنوان “دور الجامعات في تعزيز حوكمة المؤسسات المحلية في مرحلة ما بعد النزاع” لكل من الباحث ياسر الحسين والباحث محمد البقاعي، حيث تناولت دور الجامعات في سورية بعد أكثر من ثلاثة عشر عامًا من النزاع، وناقشت ثلاثة محاور أساسية، وهي فهم السياق لدى كوادر الجامعات، وتبني المسؤولية المجتمعية، وحجم المساهمات البحثية والأكاديمية.
إضافة إلى ذلك، نوقشت ورقة أخرى في السياق نفسه، وكانت بعنوان “نقابة المعلمين في سورية بين قيود الواقع وآفاق التغيير” لكل من الباحثة لبابة الهواري والباحث يمان زباد، وذلك في محاولة تحليل البنية التنظيمية والوظيفية لنقابة المعلمين في سورية، مع التركيز على أدوارها المهنية والتعليمية، والقيود القانونية والسياسية التي حدّت من فاعليتها واستقلالها. والتحديات البنيوية والوظيفية التي تعيق أداءها. وخلصت إلى توصيات عملية لإعادة تموضع النقابة ضمن بنية الحوكمة التعليمية الوطنية.
وكانت الورقة الأخيرة في الجلسة الرابعة بعنوان “البنى التحتية في سياقات النزاع: سد الفرات نموذجًا للاستخدام السياسي” للباحث هوغو هنكلر، وهي ورقة لتحليل الخطاب الدعائي والاتصالي المرتبط بسد الفرات قرب مدينة الرقة، بوصفه رمزًا سياسيًا متعدد الاستخدامات منذ افتتاحه عام 1973. واعتمدت الورقة على تحليل أرشيفات فرنسية وصحف سورية لتفكيك التناقضات في الخطابات حول السد، وأبرزت دور هذه البنية التحتية في إعادة إنتاج الرمزية السياسية ضمن سياق الصراع السوري.
إعلان نتائج “المؤشر العربي” لقياس الرأي في سورية
قبل الجلسة الخامسة، كان هناك جلسة أعلن فيها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات نتائج استطلاع المؤشر العربي في سورية، ليكون أضخم مسح رأي عام يُنفّذ في سورية بعد التغيرات السياسية الأخيرة. وشارك في هذه الجلسة محمد المصري، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومدير برنامج “المؤشّر العربي” في المركز، والباحث جمعة حجازي، المستشار الأكاديمي للمسح الذي جرى تنفيذه في سورية، والباحث أحمد قاسم الحسين الباحث في المركز العربي لدراسة السياسات، ومدير تحرير دورية “سياسات عربية”.

شمل الاستطلاع عينة واسعة من السوريين بلغت 3690 مستجيبًا في مختلف المحافظات السورية، وأظهر أن غالبية السوريين يتطلعون بتفاؤل إلى مستقبل بلدهم، إذ رأى 56% من المستجيبين أن سورية تسير في الاتجاه الصحيح مقابل 27% اعتبروا أنها في الاتجاه الخاطئ. وبرزت أسباب هذا التفاؤل في زوال حكم بشار الأسد، وتوفر الأمن والأمان، وتحسن نسبي في الوضع الاقتصادي والسياسي. وفي ما يخص الأوضاع المعيشية، انقسم السوريون حول تقييم الوضع الاقتصادي للأسر، إذ وصفه 47% من المستجيبين بالإيجابي، في حين اعتبره 51% سلبيًا، وأفاد 42% بأن أسرهم تعيش في حالة عوز، بينما قال 36% إنهم يحصلون على حوالات مالية من الداخل أو الخارج. أما في موضوع الثقة بالمؤسسات، فقد أظهر 70% من المستجيبين ثقة بالأمن العام، و68% أظهروا ثقة بالحكومة الحالية، في حين رأى 89% من المستجيبين أن الفساد ما زال منتشرًا وإن كان بدرجات متفاوتة. وعلى الرغم من ذلك، فقد أشار 56% إلى أن مستوى الفساد تراجع مقارنة به في العام الماضي. وفي ما يتعلق بموضوع الهجرة، كشف الاستطلاع أن 26% من المستجيبين يرغبون في مغادرة البلاد، ومعظمهم يرغب في ذلك لأسباب اقتصادية وأمنية، فيما اختار أكثر من نصفهم أوروبا كوجهة مفضلة. وعلى صعيد المواقف من الدول الإقليمية، اعتبر 55% من المستجيبين أن إسرائيل هي التهديد الأكبر لأمن سورية، تلتها إيران بنسبة 14%. كما أكد 74% رفضهم الاعتراف بإسرائيل، و70% رفضوا أي اتفاق معها من دون استعادة الجولان. أما في ما يتعلق بموضوع الديمقراطية، فقد أكد 61% من المستجيبين أن النظام الأفضل للحكم في سورية هو النظام الديمقراطي، بينما قال 60% إنها تظل أفضل من غيرها من الأنظمة، على الرغم من بعض مشكلاتها. ويعكس هذا الاستطلاع، الذي شارك في تنفيذه أكثر من 200 باحث، نبض الشارع السوري وتطلعاته في مرحلة مفصلية من تاريخ البلاد.
الدولة والحوكمة بين العلمانية والدين والنماذج الديمقراطية
وفي الجلسة الخامسة، التي كانت برئاسة الباحث سامر بكور، ناقش المشاركون عددًا من الأوراق البحثية منها ورقة بعنوان “التحولات في أدوار الفصائل المسلحة من القتال إلى الحوكمة” للباحثة غولسن دوفرة، وتناولت إشكالية الدولة والشرعية في سياقات النزاع، من خلال دراسة حالة إدلب وشمال غرب سورية بوصفها نموذجًًا لتفكك السلطة المركزية وتحدي المفاهيم التقليدية للدولة. وحللت التكوين المعقد لشبكة الفاعلين المحليين وآليات الحوكمة البديلة في إدلب وشمال غرب سورية، مع التركيز على كيفية بناء الشرعية أو تقويضها، معتمدة على المنهج النوعي، لفهم ديناميات الحوكمة في غياب الدولة المركزية.
ونوقشت أيضًا ورقة حول “تأسيس نموذج دولة ديمقراطي في الحالة السورية” للباحث محمد عثمان محمود، قدم فيها نموذجًا دستوريًا محايدًا، ثقافيًا وجماعاتيًا في السياق السوري، انطلاقًا من واقع التعدد الثقافي والديني والإثني. وذلك بهدف صياغة تصور دستوري يضمن الحياد في المجال العام، ويراعي في الوقت ذاته الخصوصيات الثقافية للجماعات، بما يعزّز الاستقرار السياسي في مرحلة ما بعد النظام الطائفي والحزبي الشمولي.
أما الورقة الأخيرة في الجلسة الخامسة فقد كانت بعنوان “دور الدين في إنتاج الطاعة واستغلال نظام الأسد للشخصيات الدينية” للباحث محمد رقيب أوغلو، ناقش فيها دور بعض العلماء في التحولات السياسية بسورية، ووضحّ أن الأنظمة السلطوية غالبًا ما تجد قلة من العلماء يُضفون عليها شرعية دينية، بعكس كثير من العلماء الذين تصدّوا للحكام عبر التاريخ. وركز على موقف رمضان البوطي، الذي أفتى بوجوب محاربة الثوار، ودعم نظام الأسد خلال انتفاضتَي الثمانينيات وعام 2011، وأبرز أن نظام الأسد استثمر مبدأ الطاعة في الفقه الإسلامي لتجنيد علماء سنّة هادئين؛ بهدف إنتاج شرعية دينية تضمن له الفوز في صراع السلطة في سورية.
المثقفون المعارضون، الفلسطينيون في سورية، وتمرد دير الزور
وفي الجلسة السادسة، التي أدارتها راما سحتوت، وهي دكتورة في القانون الدولي، نُوقشت ورقة بعنوان “قضية اللاجئين الفلسطينيين في سورية في سياق جديد” للباحث طارق حمود، حيث تناولت واقع اللاجئين الفلسطينيين في سورية خلال السنوات الأربع عشرة الماضية، وركزت على أثر الحرب السورية في مكانتهم القانونية والاجتماعية والسياسية. ورصدت الآثار المديدة لهذه التحولات، وناقشت إمكانيات تطوير الإطار القانوني الراهن بما يعزّز اندماجهم في المجتمع وسوق العمل. وبحثت في موقعهم ضمن الملفات السورية الكبرى، مثل المواطنة والعدالة الانتقالية، والمصالحة الوطنية، وإعادة الإعمار، معتبرة أن إدماجهم في رؤية شاملة لسورية المستقبل سيكون حاسمًًا في إعادة بناء نسيج اجتماعي أكثر شمولًا وعدالة.
وإضافة إلى ذلك، ناقشت الجلسة أيضًا ورقة بعنوان “تحولات المثقفين المعارضين بعد 2011” للباحث عبد المنعم الحلبي، وهي ورقة تبحث في التحولات السياسية التي طرأت على مواقف المثقفين السوريين المعارضين ودورهم منذ عام 2011، وتحلل إمكاناتهم المستقبلية في العملية السياسية. وتشير إلى انتقال العديد منهم من النقد الثقافي إلى الانخراط السياسي المباشر عبر مؤسسات المعارضة والإعلام والمجتمع المدني، في ظل تحديات المنفى والاستقطاب وتراجع الفضاء العام. وتقترح سبلًا عملية للاستفادة من دور المثقفين في مرحلة ما بعد الصراع بوصفهم فاعلين في بناء السلام وصياغة السياسات.
أما الورقة الثالثة في الجلسة، فقد كانت بعنوان “ديناميات التمرد منخفض الشدة في دير الزور” للباحث حيان دخان، تتناول فيها الصراع في محافظة دير الزور منذ آب/ أغسطس 2023، بين قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وفصائل منشقة، من بينها فصائل قبلية. وافترض أنّ اعتقال قادة مجلس دير الزور العسكري مثّل لحظة مفصلية فجّرت مظالم محلية متراكمة، وأن النظام السوري السابق استغل التوترات القبلية بهدف تقويض الوجود الأميركي في شرق سورية. واعتمد الباحث على المنهج النوعي، من خلال تحليل روايات محلية ومعطيات ميدانية؛ لفهم الديناميات الاجتماعية والسياسية المحرّكة لهذا النزاع.
كذلك، قُدّمت ورقة أخرى بعنوان “دور المجتمع المدني في المرحلة الانتقالية في سورية” للحقوقية آمنة خولاني، ناقشت فيها مسمى المجتمع المدني السوري في سورية، وما يندرج تحت هذا الاسم من تجمعات أو نشاطات، وأشارت إلى أنه لم يكن في سورية قبل الثورة مجتمع مدني بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل كان هناك بعض الإرهاصات للمجتمع المدني مثل ربيع دمشق وحركة شباب داريا وبعض المحاولات التي قمعها النظام السوري، ثم انتقلت إلى الحديث عن الفجوة الكبيرة الحاصلة الآن في المجتمع السوري حيث تحول بفعل نظام الأسد إلى مجتمعات مشتتة ومنقسمة.
المساعدات والتنمية والعدالة الدولية في سورية
وخُصصت الجلسة السابعة التي كانت برئاسة سمير سعيفان، وهو باحث في الشأن الاقتصادي ومستشار في قضايا التنمية والسياسات الاقتصادية، لمناقشة عدد من الأوراق البحثية منها ورقة بعنوان “مفارقة المساعدات في شمال غرب سورية بين التبعية والتنمية” للباحثة نجاح عبد الحليم، تناولت فيها اعتماد سلطات شمال غرب سورية، قبل سقوط النظام السوري السابق، على الدعم الخارجي، ولا سيما المقدّم من تركيا، في إدارة الخدمات الأساسية، ما يكرّس التبعية ويعوق التنمية المستدامة. واستندت الورقة إلى نقد وليام إيستريلي ونظرية التبعية، لتوضح أن المساعدات تؤدي إلى إضعاف المؤسسات المحلية.
ونوقشت ورقة أخرى بعنوان “إمكانات تطبيق برنامج (بولسا فاميليا) البرازيلي في السياق السوري” للباحث محمد غزال، تناول فيها تجربة برنامج “بولسا فاميليا” الذي أُُطلق في البرازيل عام 2003، والذي يهدف إلى مكافحة الفقر من خلال تقديم تحويلات نقدية مشروطة للأسر الأشد احتياجًا، والتي مثّلت آنذاك ما يقارب 25 في المئة من السكان. ودرست الورقة إمكانية تكييف هذا النموذج في محافظة إدلب لتعزيز التعليم والرعاية الصحية، وتفعيل الاستثمار الأسري في رأس المال البشري، بما يساهم في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة في شمال غربي سورية.
إضافة إلى ذلك قدمت ورقة أخيرة وكانت بعنوان “الجرائم الدولية والانتهاكات في الحرب السورية” للباحث عبد الرزاق الحسيني، تناول فيها الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها أطراف النزاع في سورية. وقد شملت هذه الانتهاكات خروقات متكررة للقانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقيات جنيف لعام 1949، وحللت تحليل هذه الانتهاكات في ضوء القانون الدولي، وحددت الهيئات القضائية المختصة بمساءلة المسؤولين عنها.
الأمن والعسكرة في السياق السوري الراهن
اختُتم المنتدى بعقد ورشة ثانية بعنوان “الأمن والعسكرة في السياق السوري الراهن”، أدارها سمير العبد الله، وهو باحث في مركز حرمون ومدير قسم تحليل السياسات، وذلك بمشاركة أحمد أبا زيد، ونوار شعبان، وعمار فرهود، حيث ناقشوا التحديات الأمنية الراهنة وأدوار القوى المحلية والدولية في مسار العسكرة وإمكانات ضبطها.

في ختام المنتدى، أكد المشاركون أن تعدد الأوراق والجلسات عكس تنوع المقاربات البحثية، من القانون والسياسة والاقتصاد، إلى قضايا اللاجئين والنخب الثقافية والمجتمع المدني. وشددوا على أن سورية الجديدة بحاجة إلى رؤية شاملة تتجاوز إرث السلطوية، وتوازن بين متطلبات العدالة الانتقالية وإعادة الإعمار، وتعزيز الحوكمة والتنمية المستدامة. وبهذا، اختتمت أعمال المنتدى الذي رسّخ موقعه كأبرز منصة أكاديمية للحوار حول قضايا سورية المعاصرة، جامعًا بين الباحثين من الداخل والخارج في نقاش علمي مفتوح حول مستقبل البلاد.