ماذا جرى في بانياس بعد أن اجتاحها مسلحون وانتشر فيها الخوف؟

نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريراً موسعاً تناول تفاصيل موجعة لمجزرة وقعت في مدينة بانياس السورية مطلع شهر آذار، والتي أسفرت عن مقتل المئات من المدنيين، معظمهم من الطائفة العلوية، عقب اجتياح جماعات مسلحة للمدينة في خضم صراع عنيف بين بقايا النظام السابق والحكومة السورية الجديدة.
أوضح التقرير، المستند إلى شهادات أكثر من 40 شخصاً، ومقاطع فيديو وصور تم التحقق منها، أن المدينة شهدت عمليات قتل ميداني منظمة على يد مجموعات مسلحة، من بينها عناصر جهادية أجنبية، وثوار سابقون انضووا شكلياً تحت لواء الحكومة الجديدة. وقعت الجرائم وسط عجز واضح من الحكومة الانتقالية عن ضبط الأوضاع الأمنية، رغم أنها وعدت بحماية المدنيين ومنع أي انتهاكات.
بدأت الأحداث عندما شن فلول من قوات الأسد كمائن ضد قوات الحكومة الجديدة، ما أدى إلى تدخل أمني واسع. إلا أن الفوضى سمحت بدخول جماعات مسلحة متطرفة إلى المدينة، ارتكبت خلالها مجازر ذات طابع طائفي، تمثلت بإعدامات جماعية، وتصفية ممنهجة لعائلات علوية في بيوتهم. أُجبر كثيرون على الهرب نحو الغابات أو اللجوء إلى قواعد روسية، بينما حاول آخرون النجاة بمساعدة جيرانهم من الطائفة السنية.
ورغم نفي الحكومة السورية الجديدة تورط قواتها في عمليات القتل، أعلنت فتح تحقيقات رسمية وشكلت لجنتين: واحدة للتحقيق في أحداث العنف، وأخرى لحماية العلويين. لكنها فرضت قيودًا على الصحافة ومنعت المراسلين الأجانب من دخول المنطقة، ما اضطر الصحيفة للاعتماد على مصادر محلية عن بعد.
وفقًا للتقرير، عانى سكان المدينة من مشاهد مأساوية تمثلت في نهب واسع للمنازل والمحال، وإلقاء الجثث في الشوارع، وحرق ممتلكات، فيما نُقل العديد من القتلى إلى مقابر جماعية. وتعد أحداث بانياس، بحسب الصحيفة، امتحاناً حقيقياً لمدى قدرة الحكومة الجديدة بقيادة أحمد الشرع على فرض السيطرة وحماية الأقليات بعد إسقاط نظام الأسد.
وختمت الصحيفة تقريرها بالقول إن المجزرة كشفت مدى هشاشة الوضع الأمني والسياسي في سوريا، رغم الانتصار الثوري، وأعادت إلى الأذهان شبح الانتقام والاحتراب الطائفي الذي كاد السوريون أن يطووه.
يعرض موقع تلفزيون سوريا هذا التقرير في إطار التغطية الإعلامية للملفات المتعلقة بواقع الأمن في سوريا، مع الإشارة إلى أن ما ورد فيه يعكس رؤية الصحيفة ومصادرها، ويُقدّم كمادة تحليلية تساعد على فهم طريقة تناول الإعلام الدولي للملف السوري، دون أن يُعد توثيقاً شاملاً لكامل المشهد أو تبنياً لاستنتاجاته.
فيما يلي الترجمة الكاملة للتقرير:
في مطلع شهر آذار أصبحت إحدى المدن السورية خاوية على عروشها تقريباً، إذ لم تعد ترى في شوارعها سوى بضع سيارات محروقة، أما المحال التجارية فقد نهبت، وكسرت واجهاتها، وأصابت طلقات من الرصاص أقفالها، واستحالت بعض الأبنية فيها إلى جدران مسودة ورماد.
حول عاملون في مجال الاستجابة الطارئة متجراً منهوباً لبيع المفروشات إلى مشرحة مؤقتة، فتوقفت أمام ذلك المتجر سيارة بيك آب بيضاء، تدلت من ظهرها قدمان ترتديان جوربين زهريي اللون، منقطين بالأبيض، وبعد مرور دقائق على وقوف تلك السيارة، وصلت عربة الإسعاف حاملة جثتين أخريين، ثم أتت سيارة بيك آب زرقاء حاملة مزيداً من الجثث.
وفي الجوار، أخذ الرجال يتوسلون للعاملين في مجال الاستجابة الطارئة حتى يساعدوهم في جمع رفات من قتل من أقاربهم، ومن خلال توسلاتهم تسمع: “هنالك سبع جثث في ذلك المبنى.. ثمة جثة أخرى في الساحة.. هنالك ما لا يقل عن أربعين جثة في أحد الشوارع”.
كانت مدينة بانياس مسرحاً لأسوأ حوادث العنف التي شهدتها سوريا خلال الشهر الماضي، وذلك عندما اجتاح آلاف من المسلحين مدن الساحل السوري، فقتلو أكثر من 1600 مدني معظمهم من الطائفة العلوية.
وعلى مدار ثلاثة أيام متوالية، جاب المسلحون البيوت، بيتاً بيتاً، ليعدموا المدنيين ميدانياً، وليفتحوا النار في الشوارع، وذلك بحسب ما نقله العشرات من أهالي المدينة.
تمكن صحفيو نيويورك تايمز من متابعة أخبار المدينة ونقلها على مدار يوم كامل تقريباً من عمليات القتل التي وقعت هناك، فعثروا على أدلة تؤكد وقوع مجزرة، وأدلة أخرى تؤكد الفشل الذريع للحكومة الجديدة التي يقودها الثوار في حماية العلويين، تلك الطائفة التي هيمنت على دوائر علية القوم في سوريا خلال حكم آل الأسد الديكتاتوري الذي امتد لعقود طويلة.
أسقط الثوار بشار الأسد في شهر كانون الأول الماضي، فأنهوا بذلك أربعة عشر عاماً من الحرب التي قتل خلالها نصف مليون إنسان. وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من توليها للسلطة، أعادت الحكومة الجديدة الهدوء بشكل نسبي للبلد، إذ منعت طالبي الثأر من الانتقام على الفظائع التي ارتكبت أيام الأسدين، الأب والابن.
بيد أن العنف الذي انفجر في الساحل أطاح بكل هذا السلام الهش، إذ بدأ في مطلع آذار، وذلك عندما شن فلول من قوات الأمن أيام حكم الأسد حملة منسقة ضد عساكر الحكومة الجديدة في محافظتي اللاذقية وطرطوس، فسارعت الحكومة إلى إرسال تعزيزات لتلك المنطقة من أجل تهدئة الاضطرابات، وذلك لأن المنطقة تعتبر معقلاً للأسد وتشتمل على أغلبية علوية.
وفي خضم تلك الفوضى، وصل الآلاف من المسلحين الذين يحملون أجندات مختلفة إلى تلك البقعة، فاستهدفوا العلويين ضمن موجة من عمليات القتل الطائفية.
دفن أغلب من قتلوا في بانياس ضمن مقابر جماعية بإشراف قوات الأمن التابعة للحكومة، وذلك بحسب ما ذكره أهال من المنطقة حضروا عمليات الدفن، وبحسب ما وثقته صور وفيديوهات تحققت صحيفة التايمز من صحتها.
ومع وقوع أحداث العنف، حرمت السلطات السورية الجديدة المراسلين والصحفيين الأجانب من دخول المنطقة، وأجبرتهم على مغادرة المدينة، غير أن صحفيي النيويورك تايمز تحدثوا عبر الهاتف مع أكثر من أربعين شخصاً من أهالي المدينة، كما أجروا مقابلات مع وجهاء من تلك المنطقة ومع مسؤولين سوريين ومع منظمات تراقب أمور الحرب، ومع محللين وخبراء في مجال حقوق الإنسان.
حصلت النيويورك تايمز أيضاً على العشرات من الفيديوهات والصور التي التقطت أثناء عمليات القتل وما حصل بعدها، وتحققت من صحتها، وذلك على الرغم من الحظر الذي فرضته الحكومة على الأدلة التي توثق العنف.
تبين لصحفيي نيويورك تايمز بأن مدنيين مسلحين وجماعات كانت تتبع للثوار في السابق ارتكبت العديد من المجازر في بانياس، بل إن عدداً بسيطاً على الأقل من العساكر الذين نشرتهم الحكومة لإعادة الأمن والنظام في المنطقة شاركوا في عمليات القتل هم أيضاً، وذلك بحسب ما أعلنه مسؤول في الحكومة السورية وأهالي المنطقة.
كشف مراسلو الصحيفة مدى ضعف سيطرة الحكومة الجديدة ورئيسها أحمد الشرع، الذي تبنى في السابق عقيدة جهادية وكان قائداً للثوار، على العديد من الجماعات المسلحة والثوار السابقين الذين انضموا إلى الحكومة شكلياً فحسب، وبينهم متطرفون من الإسلام السنة، وجهاديون أجانب يعتبرون العلويين كفاراً، ومعظم هؤلاء إلى جانب عناصر من هيئة تحرير الشام التي تتبع للشرع نفسه يرغبون بالانتقام بسبب الوحشية التي مارسها نظام الأسد الذي شكل العلويين أغلبية فيه.
وما تزال هويات جميع تلك الجماعات المسلحة التي تورطت في عمليات القتل غير معروفة.
بيد أن السلطات السورية أنكرت ضلوع قوات الأمن التابعة لها في تلك المجازر، وأعلنت بأنها تحقق في الموضوع وستحاسب كل من يثبت تورطه بإلحاق أي أذى بالمدنيين. وفي شهر آذار، شكلت الحكومة لجنتين، إحداهما للتحقيق بالمتورطين في أحداث العنف ضد المدنيين، وأخرى لحماية الطائفة العلوية في الساحل من أي عنف قد يحصل مستقبلاً.
كما ألقت قوات الأمن القبض على ما لا يقل عن شخصين على خلفية أحداث العنف تلك بحسب ما ذكره مسؤولون، على الرغم من أن التحقيقات ما تزال جارية، ولم يرشح أي دليل يشير إلى ضلوع قيادات عليا ضمن الحكومة الجديدة في إصدار أوامر بالقتل، وذلك بحسب ما ذكره مراقبون ودبلوماسيون. في حين لم يرد مسؤولو الحكومة عندما طلب منهم التعليق على هذا الأمر.
في بانياس، لم تعد تطمينات الحكومة تعني شيئاً بالنسبة للأهالي الذين شهدوا الاضطرابات والفوضى بأم أعينهم.
وعلى مدار الشهر الفائت، فر نحو عشرين ألف سوري إلى لبنان، وذلك بحسب ما أعلنه مسؤولون لبنانيون ومنظمات حقوقية، وما يزال آلاف غيرهم يختبئون في بيوت أصدقائهم كما لجأ كثيرون منهم لقاعدة روسية جوية موجودة في المنطقة.
تقول صبا، 30 عاماً، وهي من أهالي بانياس: “لقد قتلوا الناس وحرقوا البيوت واقتحموا المحال”، لكنها فضلت ألا تعرف إلا باسمها الأول خشية الانتقام، وعللت ذلك بقولها: “إني خائفة” وذلك مثلها مثل أغلب الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات بهذا الشأن.
الكمين
يمتد معقل الطائفة العلوية على مسافة 177 كيلومتراً ضمن الشريط الساحلي الجبلي الواقع بين لبنان وتركيا، وتحتل مدينة بانياس قلب ذلك المعقل، ويبلغ عدد سكانها أربعين ألفاً.
تنقسم المدينة بحسب الطوائف إلى منطقتين، المنطقة الجنوبية ذات الغالبية السنية، والأحياء الشمالية ذات الأغلبية العلوية، وعلى الرغم من أن بعض علويي بانياس خدموا في جيش الأسد، فإن أغلبهم حرموا من حقوقهم في ظل حكمه، وذلك بحسب ما أورده الأهالي.
عندما أطيح بالأسد في كانون الأول، خشي كثيرون من تمرد الساحل، وذلك لأن قوات النخبة في جيش الأسد لاذوا بتلك المنطقة بحسب ما ذكره ضباط سابقون لدى جيش النظام البائد. غير أن بعضهم طالبوا العلويين بالتعبئة للرد بشكل مسلح على السلطات الجديدة في سوريا.
ثم تحولت تلك المخاوف إلى حقائق يوم الخميس الواقع في السادس من آذار، إذ عصر ذلك اليوم، نفذت عناصر من فلول النظام البائد سلسلة من الكمائن بحق عساكر الحكومة في المنطقة الساحلية، فردت السلطات السورية بالقوة والنار والمدفعية التي ضربت محافظة اللاذقية طوال ساعات.
وصلت الاشتباكات لبانياس عند الساعة الثانية صباحاً تقريباً من يوم الجمعة، وذلك عندما حاصر موالون للأسد مخفر الشرطة الرئيسي بحسب ما ذكره أهال ومسؤولون في المنطقة. وفي الوقت الذي تدفق الجرحى من ضباط الشرطة على مشفى الدولة ببانياس، بدأ القناصون بحصد قوات الحكومة التي كانت تحرس أبواب المشفى.
وبحلول فجر ذلك اليوم، اشتعل الساحل كله.
المسلحون
صباح يوم الجمعة، كانت صبا، 30 عاماً، وهي معلمة في روضة أطفال، تجلس في غرفة المعيشة ببيتها في منطقة القصور ذات الغالبية العلوية ببانياس، فأخذت تتصفح القنوات الإعلامية التابعة للدولة عبر قناة تلغرام، وهناك قرأت إعلان الحكومة عن إرسال تعزيزات للبحث عن جماعات مسلحة هاجمت عناصرها.
تخبرنا صبا بأنها أحست هي وشقيقها أحمد البالغ من العمر 36 عاماً بالارتياح لذلك النبأ، لأنهما لم يتمكنا من النوم في الليلة الفائتة بسبب أصوات الرصاص، ولذلك تمنت أن تتمكن قوات الحكومة من إعادة الهدوء للمنطقة، وتتابع وصفها لما جرى بالقول: “اعتقدنا أن الأمور أصبحت على ما يرام، وبأن كل ما علينا فعله هو أن نبقى في الداخل ريثما ينتهي القصف وتنقطع أصوات الرصاص”.
ولكن بعد مرور بضع ساعات، وصل إلى باب صبا ما يقارب من 12 رجلاً ذكروا بأنهم يتبعون لقوات النخبة من الأمن العام لدى الدولة، أي تلك القوات التي تشكلت من الثوار الذين أطاحوا بالأسد، فخرج شقيقها ووالدها البالغ من العمر سبعين عاماً لملاقاتهم بعد أن رفعا أيديهما مستسلمين.
أخبرهم أحمد بأنه عمل ضابطاً في الجيش لدى نظام الأسد وسلمهم وثيقة صادرة عن السلطات السورية الجديدة تثبت تسليمه لسلاحه، كما ذكر والدها للعساكر بأنه متقاعد وبأنه عمل لدى محطة الطاقة التابعة للدولة في مدينته.
تخبرنا صبا بأن قوات الأمن دققت في الوثيقة ثم فتشت البيت بحثاً عن السلاح، فلم تعثر على أي قطعة منه، بعد ذلك طلبت من الأسرة أن تبقى في الداخل، وتتابع بالقول: “أخبرونا بأنه من الأفضل لسلامتنا أن نبقى في بيتنا، وبأن كل ما سيفعلونه هو ملاحقة فلول النظام التي هاجمتهم” وتصفهم بأنهم تعاملوا معهم بكل احترام.
وكغيرها من أهالي المنطقة، لم تدرك صبا بأن جماعات مسلحة أخرى لديها دافع آخر قد وصلت إلى المنطقة، وهذا الدافع يتلخص بمطاردة العلويين واستهدافهم.
إذ ذكر كثير من الأهالي بأنهم ظنوا في بداية الأمر بأن هؤلاء المسلحين ما هم إلا عناصر تتبع لقوات الأمن العام التابعة للحكومة، لأن أغلبهم يرتدون بزات عسكرية ويقودون سيارات مزودة برشاشات تشبه تلك التي ظهرت في الصور التي تنشر على قناة تلغرام التابعة للدولة، وذلك بحسب الصور والفيديوهات التي جرى التحقق من صحتها.
ولكن مع اقتحام تلك الجماعات للشوارع، أدرك الأهالي بأنهم لا يمثلون أي تعزيزات أرسلتها الحكومة لإعادة الأمن للمنطقة، فبعض هؤلاء المسلحين كان يصرخ بلغة عربية فصيحة أو ضعيفة، كما كانوا يرتدون الزي المعتمد في جنوب ووسط آسيا، ما يعني بأنهم جهاديون أجانب. وتبين بأن آخرين غيرهم كانوا مدنيين مسلحين ساعين وراء الثأر بسبب المظالم التي ارتكبت خلال فترة الحرب، وذلك بحسب ما ذكره أهالي بانياس.
وعصر يوم الجمعة، فاقت أعداد تلك الجماعات عدد القوات التابعة للحكومة في المنطقة، وذلك بحسب ما ذكره مسؤولان سوريان تحدثا شريطة عدم ذكر اسميهما لأنه لا يجوز لهما التحدث إلى الصحافة.
بعد مرور عشرين دقيقة تقريباً على رحيل قوات الحكومة عن بيت صبا، عاد أحد الجنود برفقة جماعة مختلفة من المسلحين حسبما أخبرتنا صبا، فنادوا على أبيها وأخيها بالاسم وأخرجوهما عنوة من المنزل، فلحقت بهم صبا إلى الحديقة الخلفية للبيت.
أطلق المسلحون خمس رصاصات على شقيق صبا بحسب ما ذكرته هي وزوجها مهند البالغ من العمر 40 عاماً، والذي لم يكن في البيت عندما وصل المسلحون، لكنه عثر على جثة أحمد لاحقاً.
ذكرت صبا بأن والدها عندما صرخ بهم قائلاً: “لا.. لا!” أطلق المسلحون النار عليه هو أيضاً، وتضيف: “كنت أصرخ وأبكي إذ فقدت عقلي وقتئذ”.
قبل رحيل المسلحين، تخبرنا صبا بأن أحدهم توقف وأخذ يحدق بها، ثم مشى وهو يصرخ قائلاً: “ماذا؟ هل أنت خائفة الآن؟ سنرجع إليك!”
فعادت أدراجها بسرعة نحو الداخل، وتهاوت على الأرض، وأخذ جسمها يرتجف بأكمله.
وعندما خبت أصوات الرصاص، هرعت نحو الغابة القريبة، وبقيت هناك ليومين، من دون أن تفارقها صورة أبيها وأخيها المسجيين وسط دمائهما في حديقة البيت، وتعلق على ذلك بقولها: “كان أبي عشقنا وعمود البيت، أما الرجال فكانوا كالشياطين، لأن كل ما فعلوه هو أنهم قتلوه”.
موجة القتل
على مدار الأيام الثلاثة التالية، نشرت الجماعات المسلحة الرعب في عموم بانياس، إذ كان المسلحون ينتقلون من باب إلى باب، فيقتلون العلويين في بيوتهم، بحسب ما ذكره الأهالي، وفي أحد الأبنية السكنية، سحبت ثلة من المسلحين أحد القاطنين وجعلته يجلس على ركبتيه، وصاروا ينادونه بالـ”كلب العلوي” ثم أمروه بأن ينبح قبل أن يطلقوا النار عليه وذلك بحسب ما ذكره اثنان من جيرانه.
في حين قام مسلحون آخرون بالدوس بسياراتهم فوق جثث القتلى في الشارع، وذلك حسبما وثقته الفيديوهات التي تحققت من صحتها صحيفة التايمز.
وهكذا عم الرعب أرجاء بانياس بسبب عمليات القتل العلنية التي نفذت لأسباب طائفية، بعد أن وضع كثيرون ثقتهم بالسلطات السورية الجديدة. إذ خلال الأشهر الثلاثة الأولى في السلطة، أوفت قوات الأمن التابعة للحكومة بقدر كبير من وعودها التي تعهدت من خلالها بنشر الاستقرار في محافظة طرطوس.
تبين لجهان، 30 عاماً، والتي تعمل في متجر للوازم الزراعية، بأن تلك القوات قوات محترفة ومحترمة، وأخبرتنا بأنها لم تؤيد لا هي ولا أسرتها نظام الأسد البائد، ولهذا شعرت بارتياح كبير عند انهيار النظام.
ولكن صبيحة يوم السبت، رأت جهان قافلة تضم مسلحين وهي تضرم النار ببيت جيرانها الواقع على أطراف حي القصور، فهرعت إلى الأعلى لتختبئ برفقة شقيقها قصي وأقاربهم في إحدى غرف النوم.
وبعد مرور بضع دقائق، فتح الرجال الباب الأمامي للبيت بالقوة، ثم سمعت الأسرة أصوات الصحون والكؤوس، بعد ذلك سمعوا أصوات الأحذية وهي تصعد الدرج.
اقتحم مسلحان ملثمان يرتديان بزتين عسكريتين المكان ووجه كل منهما بندقيته نحو قصي بحسب ما ذكرت جهان، فما كان منه إلا أن أخرج هويته وقدمها لهما ليثبت أنه مدني، فرماها المسلحان جانباً، ثم سحلاه نحو الأسفل وأجبراه على الوقوف على ركبتيه، بحسب ما ذكرته جهان هي واثنان من أقاربها، وأثناء تفتيشهما لممتلكات الأسرة، تعرف قصي على أحد الرجلين، إذ كان أحد زبائنه في البقالية، لكنه انضم لقوات الحكومة الجديدة بحسب ما ذكرته جهان وأحد العاملين في المتجر وكان أحد من اختبؤوا برفقتها هي وأهلها.
توسل إليه قصي بالقول: “أرجوك.. إنك تعرفني”، فأخبره الرجل بأنه لا يستطيع مساعدته.
أما في الأعلى، فقد طلب رجل أكبر سناً ينتمي لتلك الميليشيا من جهان أن تسلمه سائر النقود والمصاغ والهواتف الموجودة في البيت وإلا سيقتل بنات شقيقاتها، ثم رمى المسلحون قصي في سيارتهم وساروا بها مسرعين، بحسب ما ذكرته جهان والعامل وشخص آخر شهد الحادثة.
بعد ثوان من مغادرة المسلحين، خرجت جهان هي وأقاربها مسرعين من الباب الخلفي وهرعوا إلى الجبال خارج المدينة، وعندما اتصلت جهان بهاتف شقيقها بعد ساعات قليلة على ذلك، رد عليها رجل صاحب صوت أجش، فسألته إن كان شقيقها ما يزال على قيد الحياة، عندئذ ضحك الرجل وقال لها: “لقد قتلنا شقيقك في الشارع”.
بعد مرور أيام على ذلك، بحث والد جهان بين الجثث المتناثرة في الطرقات، وفتشها واحدة تلو الأخرى، وبعد ساعات من البحث، عثر على قصي الذي اخترقت الرصاصات صدره ولطخت دماؤه الرصيف.
الهروب
مع اجتياح الرعب للمدينة، فر الآلاف من العلويين الذين اعتراهم اليأس الشديد، كما اختبأ بعضهم في الأحراش الواقعة على تخوم المدينة، واقتاتوا هناك على أوراق الشجر وماء النهر طوال أيام بحسب ما ذكره الأهالي، في حين رحل آخرون بسياراتهم التي قادوها وهم يحاولون أن يتفادوا الدوس على الجثث المنتشرة في الشوارع.
مع توسع رقعة المجزرة، أضحى الهروب من المدينة عسيراً، وذلك لأن المسلحين انتشروا فيها وأقاموا نقاط تفتيش لمنع العلويين من مغادرتها، ولذلك حاول بعض المسلمين السنة مساعدة جيرانهم الذين لم يتمكنوا من الهروب.
يخبرنا أحمد، 38 عاماً، وهو رجل أعمال يقيم في منطقة القصور، بأنه اتصل بأحد أصدقائه السنة وتوسل إليه طلباً للمساعدة، وقد طلب الصديق ألا يذكر اسمه خوفاً من التعرض للمحاسبة، لأنه أسرع إلى شقة أحمد وعرض عليه خطة، حيث قدم أغطية رأس لشقيقة زوجة أحمد ولبنات أخته حتى يظهرن بمظهر النساء السنيات، ثم انطلقوا بسيارته إلى بيت صديق آخر يقع خارج المدينة.
خلال دقائق، شاهدوا مسلحين يرتدون بزات عسكرية وهم يقتحمون تقاطعاً رئيسياً في المنطقة، وذلك بحسب ما ذكره أحمد وأقرباؤه، فما كان من صديق أحمد إلا أن توجه إلى طريق فرعي، لكنه كان مقطوعاً بسبب الجثث والسيارات المحروقة. فما كان منهم إلا أن عادوا مرة أخرى إلى التقاطع، حيث استوقفهم مسلح فتح باب مقعد السائق عنوة وهو يسأل: “أسني أنت أم علوي؟”
فأخبرهم صديق أحمد بأنه سني، وبأنه أتى ليصطحب أقاربه الذين احتجزوا في الحي، فتوقف المسلح لهنيهة، ثم التقط صورة لكلا الرجلين، مهدداً إياهما بالويل والثبور في حال اكتشف كذبهما، ثم أشار لهما بيده سامحاً للسيارة بالعبور.
بعض الأهالي الذين لم يتمكنوا من الهروب اختبؤوا في البساتين والأبنية المهجورة الموجودة في مختلف أنحاء المدينة، فاستغلت الجماعات المسلحة خلو الأبنية من سكانها، ونهبت البيوت والمحال التجارية، وسرقوا منها كل شيء وجدوه فيها، سواء ألواح الطاقة الشمسية التي سرقوها من أسطح البيوت، وكذلك الأثاث الذي نهبوه من الشقق، وبطاريات الليثيوم التي تستخدم مع المولدات.
وعند انتهاء تلك الاضطرابات التي امتدت لثلاثة أيام، تبين مقتل ما لا يقل عن 368 شخصاً بينهم 13 طفلاً، وذلك بحسب ما أورده المرصد السوري لحقوق الإنسان من مقره في بريطانيا.
تناثرت الجثث في كل مكان، فوق أرضيات غرف الجلوس، وفوق أديم بساتين الحمضيات، وفوق أرصفة الشوارع، كما فاضت مشرحة المشفى بالجثث، وكذلك ثلاجة نقل الموتى.
تجرأت قلة من الناس على الخروج إلى الشوارع بعد أن انتابها اليأس فقررت البحث عن ذويها ونقل رفاتهم إلى مثواه الأخير.
خافت صبا أشد الخوف من فكرة العودة إلى البيت بعد أن قتل والدها وشقيقها، أما زوجها مهند فقد قاد سيارته عائداً إلى البيت ليجد الجثتين مكومتين على الأرض.
وبمساعدة العاملين في مجال الاستجابة الطارئة، لف مهند الجثمانين بمشمع أبيض وحملهما إلى المقبرة الواقعة على أطراف مدينة بانياس، وهناك سمع عويل النساء القادم من الجبال.
حمل مهند رفات قريبيه إلى مقبرة جماعية حفرت حديثاً، فواراهما الثرى هناك، ثم قرأ على روحيهما الفاتحة، وبعد مرور أيام على ذلك قال: “ماذا بوسعي أن أقول؟ إننا نعيش في خوف، فالموت منتشر في كل مكان”.
المصدر: The New York Times