عندما تصبح الطائفة أداة للصراع وليس مجرد هوية ثقافية

تنويه:
كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “الأزمة الطائفية في سورية”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.
رئيس التحرير
أولًا- مقدمة:
تميزت سورية تاريخيًا بتنوّع طوائفها ودياناتها، حيث عاش المسلمون والمسيحيون والدروز والعلويون والإسماعيليون وغيرهم جنبًا إلى جنب، فكانت الطائفة، في كثير من الأحيان، بمثابة تعبير عن انتماء ديني – مذهبي، يشكل جزءًا من الهوية الثقافية للإنسان، من دون أن تحمل طابعًا سياسيًا أو إقصائيًا.
فالطائفة، في السياق الديني، ليست أكثر من مجموعة فرعية ضمن إطار ديني أكبر، تشترك في المعتقدات والممارسات والهيكل التنظيمي[1]. وعندئذٍ تُصبح الطائفة هوية اجتماعية، يُعرّف الأفراد أنفسهم من خلال عضويتهم في هذه الجماعة، مما يُعزز الشعور بالانتماء والتمايز عن الجماعات الأخرى.
وتُعدّ الطائفية سلوكًا أو نظامًا اجتماعيًا وسياسيًا، يقوم على الانتماء إلى طائفة دينية أو مذهبية معينة، حيث تُمنح الولاءات والحقوق والامتيازات لأفرادها بناءً على هذا الانتماء، وليس على أساس المواطنة أو الكفاءة الفردية.
وعادة، يلجأ الأفراد، في حالات الانهيار الوطني أو ضعف الدولة، إلى هوياتهم الطائفية كمأوى للحماية، والانتماء. وتُصبح الطائفة “حصنًا” يُلجأ إليه في مواجهة المجهول، حيث يُعاد إنتاج الهوية الطائفية بوصفها وسيلة للبقاء، وليس بالضرورة تعبيرًا عن التديّن أو المعتقد. وعندئذ يتجاوز الانتماء للطائفة مجرد انتماء ديني أو مذهبي، ويصبح بمنزلة إطار اجتماعي وسياسي، يؤثر في سلوك الأفراد وتفاعلاتهم مع المجموعات الأخرى في المجتمع، فينعكس ذلك على علاقاتهم مع بقية المجموعات، وينخرطون في حُمّى “تسييس الهوية الطائفية”، وما يرافقها عادةً من الترويج لبروباغندا تعتمد التزييف والادعاء والشحن وشدّ العصب المذهبي والسعي لوضع الفكرة (الاعتقاد) في ساحة الممارسة العملية. ويصبح التعصّب الطائفي مولدًا لمشاعر الحقد والعداء والكراهية، ويتسبب ذلك في مزيد من الانقسامات، ويُضعف النسيج الاجتماعي وفرص التعايش السلمي.
ثانيًا- من هوية دينية اجتماعية إلى أداة في الصراع:
أولًا- أدت التحولات السياسية والصراعات المتراكمة في سورية، ولا سيما إبان حكم حافظ الأسد عام 1970، إلى تغيرات في طبيعة الدور الذي لعبته الطائفة العلوية، وباتت الطائفية أحد أخطر التحديات التي تواجه حاضر سورية ومستقبلها، عندما تم استثمارها لتكون أداة بيد الحاكم، ومن ثم أعيدَ تعريف العلاقة بين الطائفة والدولة. فعلى الرغم من رفع الأسد شعارات قومية وعلمانية، فإن سياساته الفعلية قامت على تمكين ما احتاج إليه وما أمكنه من العلويين، ضمن البنية الأمنية والعسكرية. لكن هذا التمكين لم يكن بهدف تمثيل الطائفة، بل لضمان الولاء السياسي واستعمال أفرادها كأداة لمساندة سلطته، وعندئذٍارتبطت الطائفة بالنظام.
ومع انطلاق الثورة السورية عام 2011، استحضر نظام بشار الدورَ السياسي للطائفة عندما قرّر المواجهة المعارضة في أول خطاب له، عندما وصفت مستشارته الثوار بالوهابيين الإرهابيين، وتحوّلت الطائفة من مكوّن مجتمعي ثقافي، إلى معيار للولاء والعداوة، عندما حسم معظم العلويين خيارهم بالانحياز إلى صف النظام، وهو الفخ الذي نصبه لهم بغية ضمان ولائهم في معركته. وما إن بدأت الاحتجاجات الشعبية الوطنية ضد دكتاتورية الأسد حتى تطوّر الصراع إلى معركة طائفية مسلحة مع تراجع مفهوم الدولة السورية. وجاءت ردة فعل المعارضة مماثلة، بهدف تعبئة أتباعهم لقتال النظام وقواته التي أوغلت بالقتل والاعتقال لنشطائهم. وهكذا بدأ الانتماء الطائفي يُحدّد مصير الأفراد في كثير من الأحيان (من يُعتقل، من يُقتل، من يُهجَّر)، وتحوّلت الطائفية من موروث اجتماعي وثقافي، إلى أداة تعبئة سياسية ونفسية، استُخدمت على مدى أربعة عشر عامًا من الصراع المسلح، كوسيلة لبقاء الحاكم في السلطة، على حساب الدولة الوطنية. وبعد مرور أزيد من أربعة عشر عامًا على صراع دام عبثي، أسقِط النظام وأسقِط بيد الطائفة في آن معًا.
ولفهم ديناميات المشهد وتطوراته داخل الطائفة بعد فرار بشار، ولتفسير ردود أفعالهم تجاه الإدارة السياسية الجديدة، يمكن النظر في الفرضيات الآتية:
1- ارتباط غالبية أفراد الطائفة العلوية بالسلطة كهوية جماعية: فمنذ تولي حافظ الأسد السلطة في عام 1970، ارتبطت الطائفة العلوية بشكل وثيق بمؤسسات الدولة، خاصة الجيش والأجهزة الأمنية. هذا الارتباط جعل من السلطة جزءًا من الهوية الجماعية للطائفة، مما جعل تقبلهم لفكرة فقدانها صعبًا عليهم[2]، وزاد من صعوبة تقبّلها ارتباط الخسارة بالخوف على مستقبلهم الوجودي.
2- سقوط مجموعة كبيرة من “رجالات” الأسد الخلّص، من قادة الأجهزة الأمنية والجيش وكبار الفاسدين الممولين للمجموعات المقاتلة غير النظامية وجميع من تلوثت أيديهم بجرائم القتل والتعذيب، بحالة الصدمة من هول ما حصل لهم. في هذه الحالة، راوحت استجاباتهم بين الإنكار والغضب، إنهم أيتام النظام الساقط، وهؤلاء هم أكثر المجموعات المهيأة لتنظيم فعل المقاومة للإدارة الجديدة، بدءًا من التحريض والتهديد باللجوء إلى قوى خارجية، وتنظيم الأعمال العسكرية -التخريبية بهدف إحداث خلخلة في صفوف القوات التي أزاحتهم عن السلطة. وفي مرحلة لاحقة -لا يُعرف طولها ومدتها الزمنية- ربما يسقط كثيرون منهم في حالة من اكتئاب نفسي… إلى حين يتمكّن بعضهم وفق ظروف موضوعية وذاتية من التكيف والتماسك، على أن بعضهم تمكن بالفعل من تجاوز الصدمة، ودخلوا في مرحلة مساومة مع الإدارة الجدبدة بأثمان متنوّعة ليتجنبوا المحاسبة.
ثالثًا- بالمقابل، يمكن فهم حالة التعاطف والتأييد الواسع لسلطة “أحمد الشرع” من قبل جمهور عريض من السوريين، من خلال دراسة محتوى الخطابات والسلوكات الرسمية والشعبية، كما يلي واستخلاص المفيد:
1- مثَّل ظهور “أبو محمد الجولاني” -أحمد الشرع- على رأس قوات ردع العدوان، وهو السُنِّي الجهادي، وتمكنه من دخول دمشق في وقتٍ فرَّ فيه الأسد من سورية، رمزًا سُرعان ما تماهى به جزء ضخم من الجمهور السوري، وخاصة السُنّة منهم، ولسان حالهم يقول إنه “واحد مِنّا”. وعُدَّ ماضيه كقائدٍ لجبهة النصرة بمثابة إضافة عززت صورته الرمزية لديهم، وضاعفت من شرعيته وشعبيته، في نظر مؤيديه، باعتباره رمزًا للمقاومة ضد النظام السابق، ما عزز من شعورهم باسترداد الكرامة.
2- الحنين إلى الاستقرار وإلى السلطة المركزية القوية: فعلى الرغم من بعض الانتقادات الموجهة إلى حكم الشرع، فإن غالبية السُنّة وغير السُنّة نظروا إلى سلطته باعتبارها الضامن لتحقيق استقرار البلاد، بعد سنوات من الفوضى والحرب.
ويمكن فهم الشعبية الكاسحة لدى الجمهور المؤيد لمطلب قيام الدولة المركزية، والتغاضي عن النواقص التي وجهها بعض السوريين لمؤتمر الحوار الوطني، وللإعلان الدستوري والصلاحيات التي كرسّها للرئيس.. إلخ، فالموالون للرئيس هم أشدّ المتحمسين لقيام سلطة مركزية قوية يحققها “القائد الشرع” القادر على فرض النظام والأمن على كامل ربوع البلاد وتأمين وحدتها. وعليه، فليكن الرئيس الشرع هو “الحاكم الفرد”، مع الرفض الشديد لكل فكرة تمس وحدة القرار السياسي المركزي، ولا يتوانى جمهور من المؤيدين عن تخوين كل من ينادي باللامركزية (الفيدرالية) أو بأي صيغة قد تُهدد وحدة الدولة، خشية انفراط عقد الدولة وخسارتها، في نظرهم.
3- من دون أن ننسى أن لبعض المؤيدين مصالح تملأ رؤوسهم ويأملون بتحقيقها عبر المنح والامتيازات المتوقع تحصيلها، ولسان حالهم يقول: “لقد ولى حكم العلويين الذين أوغلوا في مختلف قطاعات الدولة والمجتمع. وانتهت مرحلة منحهم الامتيازات والمكاسب، وحان دورنا الآن”.
4- قبل سقوط حكم الأسد، وإبّان تعثر ظهور حلٍّ مرضٍ للأزمة السورية، تراءت لبعض السوريين -النُخب- سيناريوهات مُخيفة، ولكنها ممكنة التحقق لمستقبل سورية، كتقسيمها إلى أجزاء محكومة من قوى الأمر الواقع، أو خضوعها لنظم الحماية، أو وقوعها في وحول الحرب الأهلية. وإزاء إخفاق القوى الوطنية والديمقراطية في تكوين أجسام سياسية معارضة بديلة لنظام الأسد، جاء ظهور الشرع الخيار “الممكن” “والوحيد”، وقد تحقق.
5- نضيف إلى ما سبق سوء الأوضاع المعيشية لغالبية السوريين، وانسداد أفق الخلاص من نظام فاجر، أمسك بتلابيب السوريين ورقابهم وأعاقهم عن إنجاز أي مهمة مهما كانت ضئيلة على طريق الخلاص، ما يفسّر ارتياح غالبية السوريين حتى أبناء الطوائف والمكونات الاثنية، عند سقوط الأسد وفراره، إذ رأوا بوصول أحمد الشرع إلى دمشق نافذة أمل.
واليوم، وقد مضى نصف عام على سقوط النظام، تفيد الوقائع الميدانية بأن الوضع الأمني في سورية ما زال مضطربًا، في ظل غياب ملحوظ للمؤسسات القضائية، فضلًا عن التوترات الطائفية التي تنذر بالتصاعد في العديد من المناطق السورية، ولا سيما في مناطق وجود العلويين والدروز، في ظل غياب آليات فعالة للمساءلة، فما زال الخوف يخيم عليهم والعدالة بعيدة المنال. ويؤدي الناشطون على وسائط التواصل الاجتماعي أدوارًا استفزازية بحقّ بعضهم، من خلال بث خطابات مشحونة بالازدراء والتخوين والحط من الكرامة والتخوين وإنكار الوطنية… إلخ. ويتم تبادل تلك الخطابات بين مؤيدين للإدارة الجديدة ومن يُسمون بالفلول والمكوعين والمعارضين، وغير ذلك من ألقاب يتم ابتداعها كل يوم، تزيد من اشتعال الغضب والكراهية والشماتة والشتائم وتزوير المعلومات وتشويه الحقائق… الخ.
ما العمل؟
إنّ معالجة الأزمة الطائفية والاحتقان المتصاعد بين السوريين تتطلب خطة شاملة ذات أبعاد متعددة، تبدأ من رأس هرم السلطة، على أن يشترك في صياغتها أوسع جمهور من المعنيين والمختصين تتضمن:
1- الاعتراف بأن المجتمع السوري يعاني مشكلة طائفية، وعرضها بشفافية عبر إطلاق حوار وطني شامل يبدأ بعقد مؤتمر وطني يضم ممثلين عن جميع الطوائف والمكونات السورية، بهدف مناقشة القضايا الخلافية، والعمل على صياغة ميثاق وطني يضمن حقوق الجميع ويؤسس لمستقبل مشترك.
2- إدانة العنف الطائفي ومحاسبة المرتكبين، وذلك بإصدار قانون يُجرم خطاب التحريض الطائفي وخطاب الكراهية والتمييز، مع إظهار الحزم والجدية من جانب الدولة وتعهّدها باتخاذ إجراءات صارمة ضد أية جهة أو فرد يثبت تورطه في هذه الأعمال، بغض النظر عن انتمائه.
3- محاسبة المسؤولين عن المجازر التي وقعت ضد المدنيين، والتأكيد على ضرورة معاقبة المسؤولين عن عمليات القتل الجماعي على خلفيات طائفية.
4- إيلاء الاهتمام بالمؤسسات القضائية عبر إصلاحها ومنحها الصلاحيات الكاملة ومتابعة إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية، على أسس وطنية تشمل جميع المكونات والأطياف السورية وتحقق الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة.
5- ضمان تطبيق العدالة الانتقالية بمراجعة مواد المرسوم رقم 22 لعام 2025، لناحية ضمان شموله وتحديد إطاره الزمني.
6- إصلاح قطاع التعليم النظامي، انطلاقًا من الاتفاق على صياغة عقد اجتماعي تربوي يسمح بمراجعة السياسة التعليمية وغاياتها ومحتويات مناهجها لإزالة المحتوى الذي يعزز الانقسامات الطائفية، واستبداله بمواد تشجّع على التسامح والتعايش وغرس قيم المواطنة المتساوية، والاهتمام بالمعلم والبيئة التعليمية.
أخيرًا، يمكن افتراض أن تعليق العقوبات الاقتصادية كفيلٌ بتحقيق بعض الوفرة في فرص العمل والتحسّن في الواقع المعيشي، فضلًا عن التحسّن في مستوى الخدمات العامة، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تحسين مزاج الجماهير عمومًا وعلاقاتهم فيما بينهم، إذا ما توافرت رؤية تنموية متماسكة تستند إلى نهج التنمية المستدامة الموجهة بالحقوق.
[1] ريمون المعلولي، الطائفة والطائفية والدستور، مركز حرمون، 27 كانون الثاني/ يناير 2024، https://2u.pw/PoE4e
[2] فابريس بالونش هل العلويون مهددون في سوريا؟ انظرThe Washington Institute