الدولة ما بعد الحديثة… جديد إصدارات الهيئة السورية للكتاب – S A N A

دمشق-سانا
يشكل كتاب “الدولة ما بعد الحديثة” الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب ضمن نسخة إلكترونية، مرجعاً ذا طابع نخبوي وعميق لفهم طرق تشكل الأنظمة السياسية والاجتماعية، وأسس بنائها.
وتأتي أهمية الكتاب كون مؤلفه جاك شوفالييه، رجل قانون فرنسي صاحب دراسات معمقة في الحكم والقانون ودولة ما بعد الحداثة، ولأن المجتمعات المعاصرة عرفت منذ بداية هذا القرن تحولاً عميقاً في أسسها التنظيمية، فكأنها دخلت في عصر جديد، ما يحتاج للكثير من الدراسة والبحث لاستخلاص مظاهر إعادة تشكيل أجهزة الدولة، والتحولات الملازمة لها بحسب مفهوم القانون.
التغيرات في دور الدولة ضمن الفكر السياسي المعاصر
ينطلق الكتاب الذي ترجمه للعربية محمد عرب صاصيلا ضمن المشروع الوطني للترجمة في قسمه الأول، ويقع في 410 صفحات من القطع الكبير، وكان صدر للمرة الأولى بلغته الأم عام 2017، وهذه النسخة المترجمة هي طبعته الرابعة، من تحولات الدولة من الكلاسيكية إلى ما بعد الحداثة، مرتكزاً على النموذج الكلاسيكي للدولة، كما صاغه فلاسفة أوروبيون أمثال هوبز وروسو وهيغل، القائم على السيادة المطلقة للدولة، وحدة الإقليم، والاحتكار المشروع للعنف.
ويشير الكتاب إلى أن هذه الركائز تعرضت للتآكل مع العولمة الاقتصادية، وهيمنة السوق على القرار السياسي، والثورة التكنولوجية خاصة الرقمية، وتدويل القضايا البيئية والأمنية، وتنامي السلطات فوق القومية، مع الإشارة إلى تعرض بنية المجتمع السياسي الغربي القائمة على تكريس مكانة العقل كمرجع نهائي، والتقدم الاقتصادي، إلى اهتزازات ونقد عميق.
المجتمعات البشرية في عالم متحوّل
يعتمد شوفالييه إطاراً تحليلياً مكانياً وزمانياً لفهم التحولات في المجتمعات، بالتوازي مع تحولات في الفضاءات بفعل العولمة التي أعادت تشكيل الحدود السياسية على حساب فكرة الأمة، ويؤكد أن المجتمع بأسره بات محكوماً بتنامي نزعة التفرد عند البشر، والتي من شأنها إلغاء التصنيفات التقليدية، والهويات الجماعية الصلبة.
أنماط الدولة الجديدة وفق الكتاب
يفصل الكتاب ثلاثة أنماط مترابطة تمثل أوجه الدولة المعاصرة:
1- الدولة الحامية: وتركّز على الأمن والدفاع، لكنها تواجه تهديدات غير تقليدية.
2- الدولة المتنافسة: وتسعى للريادة في الاقتصاد والتكنولوجيا.
3- الدولة الحوكميّة: وتقوم على إدارة شبكة تشاركية تضم فاعلين من خارج الجهاز الرسمي.
تحولات القانون ودلالاتها
في القسم الثاني من الكتاب، يربط شوفالييه بين تحولات الدولة وتحولات القانون، الذي انتقل من كونه تجسيداً للعقل ونظاماً للإكراه، إلى قانون ما بعد حداثي يركّز على الحقوق الذاتية، ويعاني فجوة متنامية بين العام والخاص، ويربط هذا التحول بأزمة القانون الإداري، وتنامي هيمنة القانون الخاص، ما يهدد الهوية التقليدية لدولة القانون.
إعادة تعريف الرابطة السياسية
يرى المؤلف أن تغير شكل الدولة وتحول القانون يكشفان أزمة الديمقراطيات الليبرالية، وخاصة الديمقراطية التمثيلية، ما يفرض إعادة التفكير في المواطنة، وتعزيز مشاركة المواطنين في الشأن العام، وإعادة صياغة مفهوم دولة القانون بما يتناسب مع تحديات الحاضر.
ويبرهن الكتاب أن الدولة لم تختفِ في عصر ما بعد الحداثة، لكنها فقدت قدرتها على السيطرة المطلقة، وأصبحت أكثر اندماجاً في شبكات عالمية متعددة المستويات، هذا التحول يستدعي إعادة النظر في مفاهيم السيادة، والشرعية، والوظيفة العامة، مع ضرورة تجديد الفكرة الديمقراطية لتستجيب لرهانات القرن الحادي والعشرين.
البعد البيئي والثقافي في الأنظمة السياسية المعاصرة
يحذر شوفالييه من أن التغير المناخي والأزمات البيئية تتطلب تعاوناً دولياً يتجاوز قدرة الدولة وحدها، فيما تدفع التحولات في الثقافة والهوية الوطنية بعض الدول نحو الانغلاق والشعبوية، ما يخلق توتراً بين الانفتاح العالمي والتماسك الداخلي.
Source link