المقالات

حيادية الدولة وأسئلة المحتوى والمضمون

Reading Time: 1 minute

تنويه:
كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “حيادية الدولة تجاه العقائد الدينية للسوريين”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.
رئيس التحرير

-توطئة:

منذ بدء الثورة السورية، لم تتوقف حوارات السوريين حول موضوعة الدولة نظريًا، وآليات تموضعها مؤسساتيًا ووضعيًا. واليوم، بعد 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، مع دخول سورية مرحلة انتقالية تحاول الاستقرار بحكومة انتقالية وإعلان دستوري محطّ نقد إيجابي وسلبي، لم يزل موضوع الدولة وسياقات بنائها الراهنة هو الحدث المحوري والمفصلي في حياة السوريين ومستقبلهم، فقد تحرر السوريون من سطوة نظام الاستبداد والتسلّط العسكري البعثي المتغوّل على الدولة بكل مؤسساتها.

مفهوم الدولة ووظيفتها وإعطاؤها صفاتها الجسمية والقانونية والدستورية موضوعُ السوريين، على تعدّد رؤاهم حولها، ويشوبه الاختلاط النظري والواقعي مع السلطة ودورها ووظيفتها، ولا سيما أن بنيان الدولة السورية يكاد يبدأ اليوم من الجذر، يخالطه مخاض الحالة الثورية، وتعدّد فرضيات البنيان النظرية والوظيفية. ففي كل موقعة حوارية، يبرز عدد من الفرضيات التي ترصد صفات هذه الدولة ومضامينها، كلٌ حسب ما يتصورها أو يعتقد أنها حقيقة واجبة التطبيق لخلاص الأمة من كوارثها التي أقامها نظام الاستبداد والإبادة الجماعية السابق.

الدولة وسؤال الأحقية والاستحقاق في تعداد صفاتها المفترضة: علمانية أو مدنية أو دينية إسلامية أو ماركسية أو قومية…. وجميعها صفات مسبقة تختزل مفهوم الدولة أمام أدلوجتها أو تصورها الوظيفي، قضية طافية على سطح المشهد السياسي. فهل للدولة صفات سياسية بعينها؟ أم أنها براء من هذا الاختلاط السياسي؟ وهل ستكفي الإجابات النظرية للإحاطة بالواقع السوري الحالي؟ أم ثمة مخاض فكري وسياسي علينا خوضه من الجذر، والجذر هو سؤال الدولة لكل السوريين.

-الدولة المصطلح والمفهوم:

ثمة مناهج فكرية سياسية متعددة حاولت تحديد مفهوم الدولة، منها تلك التي اتخذت الحالة الوظيفية الاقتصادية والأيديولوجية كأداة هيمنة وتحكم، كما ساد في النظم الشمولية وأجهزتها الأيديولوجية ومشتقاتها التسلطية الشرقية المشوهة، في مقابل منطق آخر، هو هوية العقد الاجتماعي وإرادة الإجماع العام على شكل الإدارة العامة، وتجريد الدولة عن تداول السلطة سلميًا، بحكم الدستور والوضعية القانونية لها، فحسب بيار بورديو “الدولة تحيلنا إلى كم أو كمية، بل إن لدينا هوية دولة، وبطبيعة الحال إن من وظائف الدولة وظيفة إنتاج الهوية الاجتماعية المشروعة”[1].

منهجيًا، مفهوم الدولة يتمايز بين حدّين: أحدهما نظري يتشكل ويتقدم تاريخيًا، والآخر وضعي متحقق بصور متعددة، ويمكن القول إنه موجّه وظيفيًا وقانونيًا؛ فالأول سياق مفهومي متطور فكريًا وفلسفيًا، وقابل للتطور والتحديث ما دام الفكر البشري والتطور الإنساني قائمًا في معالجة النماذج الإنسانية وإمكانياتها المتقدمة، والثاني يتعامل مع القوانين بأطرها الواقعية والمجتمعية. وكلا الحدّين يقودان لعدم الثبات عند أدلوجة ثابتة أو قاعدة مكتملة معينة تنهي التاريخ عندها. الأمر الذي قد يشكّل منزلقًا سهلًا لموقع الوضعية والعلمية المفرطة بالامتثالية والمادية، حين تتحول الأفكار إلى أصنام سلطوية تؤله حكامها، سواء كانت دينية أو قومية أو ماركسية، أو حتى علمانية أيضًا. وهذا ما يشكل فارقًا حاسمًا في الفكر ومرتكزاته النظرية، من حيث الفرق بين الدولة والسلطة بالمبدأ، كما بين مفهوم الدولة الكلاسيكية والدولة الحديثة، ما يستوجب الأخذ بالمعطى الواقعي اليومي والزمني خاصة، ونحن في خضم معترك حاد في التحول المنشود نحو الدولة.

الدولة ليست مفهومًا نظريًا فقط، ولا هي حالة قانونية وظيفية قابلة للتحوّل إلى حالة احتكار سلطوي أو قانوني عام وحسب أيضًا. إنها، ككلّ المفاهيم، تلك الحالة المتغيرة زمنيًا والمتموضعة مكانيًا وفق شروط إنتاجها المجتمعية. تاريخيًا، يمكن أن نجيز أن فكرة الدولة نشأت لتضع حدًا لتفرّد قيادة الزعيم أو القائد الفرد لجماعة ما أو عشيرة ما، وإخراجها من الهيمنة الفردية وعلاقات القوة الناتجة عنها، أو ما اصطلح على تسميته بعلاقات ما قبل دولة، حيث إن “الإنسان ابتكر الدولة، لكيلا يطيع الإنسان. ونشأت فكرتها عن هاجس فصل علاقات السلطة بالخضوع، فالدولة ركيزة سلطة تتعالى عن الإرادة الفردية للشخصيات التي تقودها”[2]. وتاريخ تطور مفهوم الدولة أخذ مسارًا تاريخيًا طويلًا من النزاع حول مفهوم السلطة والحكم وإقامة الحد على الاستفراد وحكم الفرد المطلق، حيث إن “مشروع السيطرة، أيّ سيطرة، الذي يسعى إلى إرساء إدارة مستمرة يحتاج من جهة أولى إلى توجيه السلوك الإنساني نحو طاعة أي سيد يزعم أنه صاحب القوة الشرعية، وبالنتيجة الاستحواذ على الخيرات المادية اللازمة في كل الأحوال لممارسة العنف الطبيعي”[3]. والتفريق بين سلطة وأخرى وأدوات تشكّل كل منها تُحدده آليات العمل السياسي المجتمعي العام، ومنه الفعل الثوري. فالفرق بين سلطة كنتاج سيطرة احتكارية، وسلطة تأتي كنتاج لعقد اجتماعي توافقي، هو المؤسس لاستقلالية الحكم عن الذات الفردية لصالح الهوية العمومية، ما يمكن تعريفه بالذات الوطنية المجردة Naked Nationality، وتجسيدها في دستور يصون ويحفظ القوانين، والمعزز بالحريات حديثًا، ونقطة انطلاقها كانت مع الثورة الفرنسية عام 1789، وهي التي مثلت الانطلاقة الأساسية لمفهوم الدولة الحديثة نظريًا ووضعيًا. فـبينما كان الإنكليز يكافحون بشكل رئيسي من أجل الليبرالية والحقوق البرلمانية التقليدية ضدّ الحكم المطلق للملك، كان اتقاد الثورة الفرنسية التحررية يطرح منظومة حديثة ونسبية للدولة والسلطة وشكل العلاقة بينهما، متضمنًا نظامًا حديثًا للحرية الاجتماعية، تلك التي شكّلت وأسست مفهوم الدولة الحديثة بمرتكزاتها الوضعية والقانونية، والمختلفة عن الدولة الكلاسيكية السابقة ذات الهيمنة والحكم المطلق وآليات التحسين المشروطة في نظام حكمها.

بالمعنى العملي للمصطلح، فإن طريقة الفعل السياسي العام تضمن تحقيق مطالب الصالح العام أو الإرادة العامة، حسب جان جاك روسو، وتحافظ عليها من خلال آلية متقنة لإنتاج وتوزيع السلطة، تُعرّف باسم “السياسة والإدارة العامة”. فيما تحدد الدولة بأنها، حسب أرسطو، أعلى شكل من أشكال الخير الذي سوف تغذيه السياسة في نظام الحكم. فهي “الشراكة الأسمى على الإطلاق، وتشمل كل الآخرين المختلفين، والأكثر خيرًا من أي شيء آخر بين حالات مفردة وشخصية، وتهدف إلى أقصى درجات الخير؛ هذه الشراكة العليا هي الجمعية السياسية العامة المسماة بالدولة”. فالدولة وفقًا لذلك تحدد بالآتي: السيادة وقوانينها الوضعية، والشعب والأمة، والحدود والجغرافية، والحكومة كإحدى أهم مؤسساتها، وطريقة الحكم محكومة بالدستور. من هذه النقاط، قامت الدولة الحديثة على مثلث الحقوق العامة:

– الحرية بوصفها حقًا لا تنازل عنه. وهذه الحرية تشمل حرية الرأي والتعبير وصياغة القوانين التي تكفل حرية الرأي والتعبير والعمل أيضًا، وهي تشمل حرية البحث العلمي، وحرية الفن والأدب والكتابة، وحرية الملكية الخاصة وصونها قانونيًا ودستوريًا.

– احترام العقائد الدينية وعدم المساس بأصحابها، تلك التي شكلت ثقافة عصرية حديثة تُعرف بالعَلمانية كسمة ثقافية مجتمعية، وترجمت وضعيًا بفصل الدين عن الدولة وجعله محصورًا بدور العبادة.

– سيادة الأمة التي تجسدت بفصل السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، بحيث تكون السلطة السياسية في الدولة الحديثة مؤسسة مدنية من مؤسسات الدولة، تقوم على صيانة القوانين واحترام الدستور وحماية الحقوق والحريات الشخصية والعامة، وذلك ضمن حدود لا مجال للاختلاط فيها بين الهوى السلطوي، فردي النزعة التسلطية والدكتاتورية، وبين الحياة العامة السياسية.

فحيث “بدأت الحدود تتضح في الدولة الحديثة بين السلطة والقوانين، حيث باتت تعتبر مجتمعًا قانونيًا وسياسيًا، تتخلى به عن مطالبتها بالسيطرة على الدين والعمليات التجارية والاقتصادية، وتتركها لشأن الكنائس والأفراد، كما أنها لا تدعي بأنها تمثل أية سلطة علمية أو جامدة، بالقدر الذي تحمي فيه حرية البحث العلمي وحرية الرأي الفردي دون ضغوط”[4]، لتصبح هذه الحقوق رائزها ومحورها الحرية، كأساس للدولة الحديثة المعبّرة عن توق الإنسان عمومًا، وحلم الفرد منا وكلّ فرد في عالم الشرق الغارق بالاستبداد، وهدف الثورات والربيع العربي، ومنها السوري في المبدأ، وخلاصته السياسية العامة في إيجاد آليات التداول السلمي للسلطة، وفق قوانين الأكثرية الانتخابية الديمقراطية دون ضغوط أو ممارسات قهرية. تلك التي جسدها وضعيًا وقانونيًا مفهوم الدولة الحديثة دون قشور أيديولوجية أو حمولات سياسية عامة لمصلحة جهة دون الأخرى، تعمل على تسخير القوانين والنصوص الدستورية لمصلحة استمرارها في الحكم والسلطة.

-الدولة الوطنية وحيادها الإيجابي:

في السياق العام، أيًا كان نموذج الدولة، فإن قيمتها من قيمة الأفراد الذين يؤلفونها. فالدولة التي تجعل توسّعها الحقوقي والعقلي مرتبة ثانية، أمام السلطة وأفرادها، وتحوّله في شؤون وتفاصيل الممارسة اليومية إلى مرتبة أقل بكثير من المهارة الإدارية، أو من هذا المظهر الذي تقدّمه الخبرة والكفاءة؛ فإن هذه الدولة تقلل من قيمة أفرادها، حتى يكونوا أدوات سهلة الانقياد في يديها حتى لو كان لأغراض مفيدة، وهي تبني الاستبداد السياسي وتختزل الدولة في السلطة. وبحسب ستيوارت ميل، فإن “هناك حدًا للتدخل المشروع الذي يقوم به الرأي العام في استقلال الفرد والعثور على هذا الحد وصيانته من الاعتداء، هو مسألة لازمة لإيجاد الظروف المناسبة للعمل الإنساني، فذلك حماية له من الاستبداد السياسي”[5]. من هنا كانت فكرة جان جاك روسو، في حيادية الدولة ونموذج الشخصية العمومية، مصدر قيمة أولًا، ومصدر تطوير ثانيًا، وتحقيق استقرار مع فتح الإمكانية للجميع المشاركة في الحياة السياسية وبناء الدولة، وكانت أساسًا لنموذج التعاقد الجمعي في كيان سياسي أسمه الدولة، وصفتها الحيادية تجاه كل مكونات المجتمع؛ تلك التي تمكن الدولة من ممارسة دورها السيادي، وتشكل السلطة العليا وفقًا للقانون، والشعب في دائرتها هم المواطنون ذوو الأهلية القانونية والصفات السياسية المتعددة. حيث إنه، بحسب روسو، “الشخص العمومي الذي يتكون من اتحاد جميع الأشخاص الآخرين، وكان يحمل قديمًا اسم (المدينة)، ويحمل الآن اسم الجمهورية أو الجسم السياسي: هذا الجسم السياسي هو ما يسميه أعضاؤه دولة إذا كان منفعلًا، وصاحب سيادة إذا كان فاعلًا، وقوة إذا قسناه على أشباهه. وأما الشركاء فيطلق عليهم جماعيًا اسم الشعب، ويطلق عليهم فرديًا اسم المواطنين، من حيث هم مشاركون في السلطة السيادية، ورعايا من حيث هم مذعنون لقوانين الدولة”[6].

أسس الدولة الوطنية الحديثة ومرتكزاتها وحيادها الإيجابي كان نتيجة تداعيات طويلة في الحياة الأوروبية، إذ اتضح المعنى الكامل لتلك التداعيات العالمية في أوروبا، خلال التجمع من أجل السلام في ويستفاليا Peace of Westphalia في مدينتي أوسانابورك ومونستر الألمانية، في عام 1648. وهذا التاريخ يمثل إجماعًا بين علماء الفكر السياسي الحديث والعلاقات الدولية على أنه يمثل ولادة الدولة الوطنية الحديثة، مع الإرادة الجماعية للشعب باعتباره صاحب السيادة. فالدولة، الدولة الوطنية العصرية، تم تحديد مصطلحها ومفهومها الأساسي مشتقًا من الكلمة الألمانية “Staat”، وتعني “الوقوف بحزم”، أو لاتينيًا وباللغة الانكليزية “State”، وبالضرورة مفهوم “الوضع القائم”. وهذا الوضع القائم ليس قدريَّ الصنع كما في الطبيعة وممالك الحيوان، بل يكتنف مفهوم الإرادة العامة للشعب. فالدولة هي السيادة مبدئيًا، سيادة الأمة وقد التقت المصلحة العامة والقيم الوجودية للشعب بعمومه على التوافق وبإرادته العمومية على وضع قانوني وحيادي تجاه التعددية والتنوع العمومي في أي مجتمع عنوانه الدولة الحيادية مصطلحًا. والحيادية هنا تعني أنها تنفي احتكار صفة بعينها سياسية أو دينية على الدولة، وليس فقدًا، بل تكتنف التعدد والتنوع الديني والسياسي والثقافي تحت مظلة الهوية والعقد العمومي الوطني، بحيث يمكن تحديد إطارها العام ودورها الوظيفي في شؤون المجتمع عامة. فالدولة الحيادية تعمل على إدارة شؤون الناس، اقتصاديًا وماديًا وحياتيًا، واحترام قدراتهم وإمكاناتهم على تنوّعها وتعدد غناها للمصلحة العامة. وتدافع عن حقوقهم وفقًا للقانون الوضعي العام الذي يساوي بين الجميع بمرجعية الدستور. وتحمي الحدود الجغرافية دون أن يتدخل العسكر في شؤون الحكم.

وفقًا لهذه الأدوار، فإن الموقف الحازم أو الحالة الوضعية لهذا المصطلح، أساسه الإرادة الشعبية في تقرير مصيرها وتحقيق أمانها واستقرارها وعدالتها. وتقف بمسافة متساوية من جميع المواطنين، فلا تفرق بين الأفراد من حيث الحقوق والواجبات، وتقوم على العدل والإنصاف والحياة الكريمة. والدولة، وضعيًا، هي مجموع المؤسسات التي تتعامل مع الشعب بمختلف أفراده ومكوناته بحيادية وبالتساوي دون محاباة أو تمييز. فالمحكمة تفصل بين المتخاصمين حسب القانون العام، لا حسب الانتماء الديني أو السياسي، والمستوصف الطبي والمشفى بقوم بالرعاية الصحية لكل فرد بالمجتمع، وليس للعلماني دون الديني أو العكس!

ومن هنا، فإن الأسس والدعامات الأولية في تحقيق مفهوم الدولة واقعيًا تتمثل بالآتي:

  •  السيادة، سيادة الشعب، والدستور كخلاصة نصّية للعقد الاجتماعي والإرادة العامة للأمة وليس لجهة ما بعينها، أي ليس لحزب البعث القائد للدولة والمجتمع في العهد البائد أو لأي جهة أخرى بديلة عنه.
  • الحدود الجغرافية التي تمتد عليها قوانين هذا المجموع البشري.
  • المؤسسات التي تدير شؤون الناس على أرضية هذه الثلاثية العامة. وبالضرورة منوط بالدولة تحقيق وترسيخ حقوق الناس، من حيث الاستقرار والأمان وصون الحقوق دون تمييز عرقي أو ديني أو ثقافي، ودون تغول سياسي أو جهوي من فرد أو جهة على آخرين.

حيادية الدولة ليس مصطلحًا وحسب، بل هي تجريدها من غلو الاحتكار السياسي، وتجسيد فعلي للسيادة والتعاقد الاجتماعي وتحقيق الأمن والأمان والحماية بآن للكل المجتمعي. والذي أسس للمصطلح النافذ في عالم السياسة العصري دولة الكل المجتمعي، دولة الحق والقانون، دولة المواطنة المتساوية، الدولة الحيادية تجاه الاختلاف والتعدد والتنوّع المجتمعي العام، وبالقدر نفسه المساواة الحقوقية، مدنيًا وسياسيًا ودينيًا.

-في نقاش فرضياتنا الراهنة:

في سياقنا السوري الحالي، أتساءل مع من يتساءلون حواريًا حول سؤال الدولة، وما يجب أن تكون عليه بأي من صفاتها المفترضة وفق فرضيات عدة، والسؤال غرضه التفريق بالملامسة والتجربة والحوار العقلي الهادئ وصولًا إلى نتائج واقعية.

فرضية أن الدولة يجب أن تكون دينية/ إسلامية، حيث الأغلبية السورية، والإسلام دينُ الإخاء والمساواة والتسامح والمحبة، دين العدالة، حيث لا فضل لعربيّ على أعجمي إلا بالتقوى… كانت صالحة في زمانها، وهذا الحديث حقّ في زمنه، أما اليوم فقد طرأت مسائل تحتاج إلى إجابات: ماذا عن الأديان والطوائف الأخرى؟ ماذا عن غير المتدينين؟ ومن ثم تُطرح فرضية مقابلة هي الدولة العَلمانية، وذلك للفصل بين الدين والسلطة السياسية. وهذا الفصل حقّ، لكن ضبابية الموقف في هذا الحق تتجلى في الخلط بين مفهومي السلطة والدولة بداية، والغائب عن المشهد أن العَلمانية هي ثقافة مجتمعية، لا تنكر حقّ الأديان والتديّن بكل تنوعاتها، ولا تقف بمواجهتها. وثقافة العَلمانية لا تفترض أن هناك انقسامًا مجتمعيًا بين الديني أو اللاديني، وتخرج من هذه الثنائية الهدّامة، لمفهوم الحقوق العامة والقانون الوضعي والعمل التشاركي لبناء المجتمع. ومن ثم تصبح العَلمانية ثقافة مجتمعية زمنية قابلة للحوار، لا للإنكار أو فرض إرادة جهة على الآخرين، وهي بالضرورة ليست من صفات الدولة، ولا تُختزل فيها.

بين هاتين الفرضيتين، تبرز فرضية الدولة المدنية، وتعني تحييد حكم العسكر عن رقاب الشعب، وهذه صفة السلطة السياسية كإحدى مؤسسات الدولة المحدودة زمنيًا، وليست صفة الدولة بعامتها. فالسلطة ليست وكالة حصرية دائمة، بل هي مجّرد وكيل قصير العمر، يُوكل إليه صاحب السيادة، وهو الشعب، تنفيذ أوامره وفق الدستور. وماذا لو كانت الدولة ماركسية أو قومية..؟ وجميعها صفات سياسية وأيديولوجية للسلطة وفقط، وما زال موروثنا الثقافي يعاني كوارث إحلال الدولة ومؤسساتها في السلطة ذاتها. وسلطة البعث العسكري شاهدٌ لا تخطئه عين.

إن الخلط بين السلطة والدولة مشهد سياسي ضبابي قائم إلى اليوم، فحيث تبدو كلّ فرضية بذاتها مكتملة الأركان، بمسلّماتها وبديهياتها ونتائجها، وفق منطق صوري مكتمل الأركان، تكون النتيجة متضمنة بالمقدمات سلفًا، وما علينا سوى اتباع ذلك المنطق للوصول إلى الدولة التي تريدها فرضية بعينها متناسية فرضيات الآخرين، وما على المواطن سوى أن يلتحق بإحدى هذه النماذج من الصفات، وسنصل إلى جنة الفردوس! ولا ننسى في هذه الأثناء أن نلقي بالويل والثبور وعظائم الأمور على من ضيّع حلم الدولة “الحق”، دينية أو علمانية أو غيرها، والبقية فِرَق ضالة! والضلال هنا يشمل كلّ خارج عن صفةٍ ما دون الأخرى. ما يجعل التنافس العام على الصفات بعيدًا كل البعد عن الدولة، بقدر ما أنه تنافس على الوصول إلى السلطة بحجة الدولة، والدولة براء من هذا جميعًا.

القول الحق بالحكم المدني، وليس الدولة المدنية، يعني أولًا إبعاد العسكر عن الحكم، ويبقى الجيش إحدى مؤسسات الدولة، ومهمته الأساسية حماية الحدود والأرض. ويعني أيضًا أنه من حق أي جهة سياسية مدنية الوصول إلى السلطة، على أرضية الدولة المحكومة بالدستور والقانون ذي السيادة العامة مبدئيًا. حينها يمكن الحديث عن سلطة البعث السياسي، سلطة مجلس السوفييت الأعلى، سلطة رجال الدين، سلطة الليبرالية وسلطة وسلط… لكنها محكومة بالدستور والتداول السلمي لها، من دون إسباغ الدولة بصفتها. بالمقابل، لنذهب باتجاه الثقافة المجتمعية التي تحتاج إلى زمن من الحوارات، وإلى بروز دور الثقافة والمثقفين والمجتمع المدني في تعزيز مفهوم الحرية، بكل أطيافها الفكرية والسياسية والإيمانية والتعبيرية والأدبية، وقبولها ببعض ضمن أطر ما يسمى بزمنية الثقافة، وهذا هو جذر العلمانية، التي هي ليست سمة الدولة، بل سمة المجتمع بتطور حلقاته الزمنية. ليصبح القول بأي صفة للدولة قولًا نافلًا عن الحقيقة والسياق الموضوعي لبناء المجتمعات.

إن الدولة الحيادية هي خلاصة تجريد مفهوميّ لدولة الكلّ المجتمعي، وما السلطة والحكم سوى إحدى مؤسساتها الرئيسية، وليست كل الدولة. فالدولة ليست دينية ولا عَلمانية، وسؤال السياق والصيرورة محط نزاع بشري طبيعي، يحتاج زمنه إلى الاستقرار والانتظام والأمان والعدالة والحرية، أس الدولة وأساسها قبل صفات نظام حكمها! الحرية شرطٌ عام للوجود الإنساني مبدع القيم وخالقها بآن، حسب سارتر، والحفاظ على الحرية شرطٌ أولي للدولة، حيث تمارس الحرية، لأنها حرية عامة ولأجلها، فالحرية مطلب عمومي تكفله القوانين عقدًا للكليّة العامة على تنوّعها، “وبسعينا خلف الحرية، نكتشف أنها تتوقف كلية على حرية الآخرين، وأن حرية الآخرين تتوقف على حريتنا”[7]، فعصر الحريات أضفى بيئة حديثة للحقوق المادية، من عدالة ومساواة وتكافؤ فرص وعيش كريم يكفله الدستور والقانون، وطيف من حريات التفكير والتعبير وإبداء الرأي، كما الاعتناق والإيمان، أسست لعقد اجتماعي أكثر إنسانية، ما زال إلى اليوم مطمحًا وهدفًا لنا نحن الغارقين في مستنقع الاستبداد الشرقي والفوات والتأخر التاريخي، ونحاول النهوض من جديد. فحسب تعبير ياسين الحافظ، “التأخر المجتمعي كالموقف من المرأة مثلًا، أو التأخر الثقافي كالموقف من التراث ومن الثقافة الليبرالية مثلًا، أو التأخر السياسي كالموقف من سيادة الشعب، وبالتالي الموقف من الديمقراطية”[8]، وهذا جدلٌ ثقافي واسع، يتطلب الحيادية والتجرد لا الاستئثار والاستبعاد، وبوابته الواسعة الدولة وشروط إنتاجها.

ربما أكون قد أفضت بحمولة نظرية حول مفهوم الدولة، وربما تكون معطيات الواقع الحالية غيرَ مؤهلة لنقاشها، بقدر المسؤوليات الجسام القائمة على تحقيق الأمان والاستقرار الأولي كشرط أساسي للبناء، وهذا مسار مفتوح، يجب أن يكون حواريًا، وأن يذهب باتجاه التوافق حول الحقوق بالمبدأ. فإن كانت بوابته الأولى سياسية، فإن سياقه العام هو المجتمع السوري بتنوعه وغناه، وهو يحاول الخروج من عتمة الاستبداد وكوارثه الكبرى تجاه الدولة واستحقاقات تشكّلها وبُناها الآنية والمستقبلية.


[1]– بيار بورديو، عن الدولة، ترجمة نصير مروة، (قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، ص 30.

[2]– محمد الهلالي وعزيز لزرق، الدولة، (المغرب: دار توبقال، 2011)، ص 10.

-[3] ماكس فيبر، العلم والسياسة بوصفهما حرفة، ترجمة جورج كتورة، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2011)، ص 267.

[4]– Kaspar J. Bluntschli, The Theory of the State, English translated from the Sixth German Edition, (Kitchener: Batoche Books, 2000), p 58.

[5] – جون ستيوارت ميل، أسس الليبرالية السياسية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام وميشيل متياس، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996)، ص 121.

[6]– جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة عبد العزيز لبيب، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، 2011)، ص 95.

[7]– جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني، ترجمة عبد المنعم حنفي، (القاهرة: الدار المصرية للطباعة والنشر، 1964)، ص 58.

-[8] ياسين الحافظ، الهزيمة والأيديولوجية المهزومة، ط 2، (دمشق: دار الحصاد، 1997)، ص 101.


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى