من التوتر الطائفي إلى التدخل الإسرائيلي.. قراءة في أحداث جرمانا وأشرفية صحنايا والسويداء

أواخر نيسان/ أبريل 2025، هاجمت مجموعات مسلّحة مناطق عدة يقطنها سوريون دروز، في جرمانا وأشرفية صحنايا وقرى السويداء الغربية. وكانت الهجمات مفاجئة ودموية، وجرت بوتيرة متصاعدة من دون أي مبرر واضح، وقد بدت -في ضوء سياقها وتوقيتها وأدواتها- وكأنها مدبّرة سلفًا، بهدف صبّ الزيت على نار التوتر الطائفي، لا سيما أنها استندت إلى تسجيل صوتي مفبرك سرعان ما تبيّنَ زيفه، وبالرغم من صدور بيان رسمي من وزارة الداخلية يؤكد أن ذلك المقطع مزوّر، فقد حدثت تظاهرات في عدة مدن، ثم تصاعد الموقف بعد ذلك. وتطرح هذه الأحداث تساؤلات عن هوية الجهات الفاعلة أو المستفيدة من تفجير هذا الوضع الأمني والاجتماعي، وعن دوافع هذا التصعيد، ولا سيّما مع غياب ما يُفسّر انفجار العنف بهذا الشكل.
وقد أدّت تلك الأحداث إلى مقتل وجرح العشرات، وعلى الرغم من قيام قوات الأمن العام بجهود لمنع الهجمات، فقد استمرت حالة التوتر عدة أيام، تلتها مساع من الحكومة بدمشق لعقد اتفاقٍ يقضي بامتداد سلطة الدولة إلى مناطق جرمانا وأشرفية صحنايا، وهي مناطق يقطنها سوريون من المكوّن الدرزي، ولكن تنفيذ الاتفاق ما زال يواجه صعوبات تحول دون تنفيذه التام، وما يزال الوضع يشهد حالة من التوتر والترقب.
تزامنت تلك الأحداث مع مناخ من التوتر المجتمعي الحاد، وهذا ما يعزز الحاجة إلى إجراء قراءة معمقة في مسار هذه الأحداث ودلالاتها، حيث لا يمكن فهم التصعيد الأخير بمعزل عن المناخ العام المتوتر الذي سبق هذه الأحداث، ولا سيما بعد ما جرى في الساحل السوري، مطلع آذار/ مارس 2025، من أحداث أودت بحياة كثير من السوريين، وتعثّر الاتفاق بين الحكومة و(قسد)، كل ذلك ترك أثرًا نفسيًا ومجتمعيًا عميقًا، أسهم في تعميق الانقسامات بين السوريين، وشكّل بيئة خصبة لتأجيج الفتن لاحقًا. في هذا السياق المشحون، بدا أن أي حادثة، ولو كانت مفبركة مثل التسجيل الصوتي المتداول، يمكن أن تتحول إلى شرارة تؤدي إلى انفجار الوضع، كما حصل في الأحداث الأخيرة.
تقدّم هذه الورقة قراءةً في تلك الأحداث، وتحاول تحديد دور الفاعلين بها، وتعرض المواقف المحلية والإقليمية والدولية، والدور الاسرائيلي، مع استشراف سيناريوهات مستقبلية محتملة.
- الأسباب غير المباشرة للأحداث
إلى جانب المناخ المتوتر، أسهمت مجموعة من العوامل غير المباشرة في تأزيم الوضع، وتشكيل بيئة خصبة للانفجار، وعلى رأسها وجود بعض الاحتقان بين بعض السوريين الدروز -أسوة بقطاعات واسعة من السوريين- من عدم إشراك مكونات من المجتمع السوري، في المؤتمرات السياسية التي نظمتها الإدارة الانتقالية مثل “مؤتمر النصر” و”مؤتمر الحوار الوطني”، ووجود آلاف الموظفين الذين فُصلوا من وظائفهم في مؤسسات الدولة في عموم سورية (وفيهم أشخاص من تلك المناطق) وتشمل تلك الوظائف الجيش والأمن والشرطة والمؤسسات المدنية، وقد فُسّر ذلك بأنه سياسة إقصاء غير معلنة، والقلق من الهيمنة الأمنية لبعض الجهات القادمة من خارج البيئة المحلية، خصوصًا بعض التصريحات التي تتناقض مع أسلوب الحياة في مناطق السوريين الدروز، وتحفّظ المجتمع المحلي على مطالبة الدولة بتسليم سلاح الفصائل الدرزية، في حين يجري استيعاب فصائل أخرى ودمجها بالجيش الوطني من دون مطالبتها بالمثل، وعدم البدء بمسار العدالة الانتقالية، ما دفع البعض إلى السعي لأخذ “حقّهم” بأنفسهم، وهو ما أسهم في تغذية منطق الانتقام الفردي خارج إطار القانون، وانتشار خطاب الكراهية الطائفية على شبكات التواصل الاجتماعي، من خلال حسابات مجهولة الهوية أو مموّلة خارجيًا، سعت إلى شيطنة مكوّنات مجتمعية معينة، وتغذية مشاعر الخوف والانقسام.
- البداية في جرمانا وصحنايا
بدأت الأحداث فجر يوم الثلاثاء، 29 نيسان/ أبريل 2025، حيث هاجمت مجموعة مسلحة مجهولة حاجزًا تابعًا للأمن العام عند مدخل مدينة جرمانا، من جهة المليحة (محور النسيم)، في تمام الساعة الثانية صباحًا، واستخدم المهاجمون رشاشات متوسطة وقذائف هاون، مما تسبب في حالة من الذعر، خاصة أن الاشتباك وقع في منطقة سكنية، وكان الحاجز يضمّ عناصر من الأمن العام، بعضهم من أبناء جرمانا، واستمر الاشتباك لنحو ساعة، قبل أن تصل تعزيزات من داخل المدينة. وفي الساعة الخامسة صباحًا تقريبًا، عاود المهاجمون الهجوم، فوقع اشتباك جديد أسفر عن مقتل ثمانية من سكان جرمانا، وإصابة نحو ثلاثين آخرين بجروح، بعضهم في حالات حرجة، وقد تأخر وصول تعزيزات قوات الأمن العام إلى ما بعد وقوع الاشتباك الثاني، ما أثار انتقادات محلية.
ولم تتحول الأحداث في جرمانا إلى اشتباكات عنيفة، بسبب تدخل الجهات الحكومية وفصائل السويداء والمرجعيات الدينية لحل الخلاف، لكن المواجهات انتقلت في اليوم التالي إلى أشرفية صحنايا، وهي منطقة تضم سكانًا من المكون الدرزي ومكونات أخرى، وشهدت خلال الفترة الماضية توترات عديدة، وراح ضحية تلك الاشتباكات العديد من المواطنين، وغادر قسم كبير من أهالي الأشرفية باتجاه القرى السورية الدرزية في القنيطرة، وكذلك فعل بعض سكان جرمانا الدروز، ثم عادوا بعد هدوء الأوضاع.
قامت الحكومة بإرسال وفود رسمية إلى مناطق الاشتباكات، ضمّت المحافظين وبعض المرجعيات الدينية، بغية تهدئة الأوضاع، قبل أن تتوسع، لكنها امتدت إلى السويداء، حيث تحرّك رتل مسلّح من السويداء باتجاه أشرفية صحنايا، فوقعت اشتباكات عند منطقة الكسوة، مع مجموعات مسلّحة غير تابعة للأمن العام، راح ضحيتها مقاتلون من تلك الفصائل، وفي سياق تلك الأحداث اغتيل رئيس بلدية أشرفية صحنايا، بعد توقيع الاتفاق، وكان قد ظهر في فيديو مع قوات الأمن العام.
وبعد عدة اجتماعات بين وفود حكومية ضمّت المحافظين ومسؤول الأمن العام في ريف دمشق، مع وجهاء جرمانا وأشرفية صحنايا ووجهاء ومرجعيات دينية وسياسية وعسكرية قادمين من السويداء، بهدف احتواء الموقف والتهدئة؛ تم التوصل إلى اتفاق على انتشار الأمن العام في جرمانا وأشرفية صحنايا، وتفعيل اتفاق آذار بين حركة رجال الكرامة والحكومة السورية، الذي كان ينص على أن يكون الأمن العام في السويداء وجرمانا وأشرفية صحنايا من أبناء تلك المناطق، على ألا يكون لهم سوابق جنائية، وتوزيع العناصر على الحواجز في جرمانا وفق “نظام المناوبات” لتكون الحواجز مشتركة بين متطوعي الأمن العام من المدينة ومن خارجها، وبدأ عناصر الأمن العام يتشكلّون من أبناء جرمانا 200، ومن الأمن العام 100، وتسلّموا هم الأمن بعد سحب السلاح المتوسط من أيدي الأهالي، وترك السلاح الخفيف فقط.
- السويداء في قلب الأحداث
بعد الأحداث في جرمانا وأشرفية صحنايا، بلغت تداعيات الاشتباكات السويداء، وكانت قرية الصورة الكبرى قد تعرضت لهجوم مسلح من مجموعات غير منضبطة، وحصلت العديد من الانتهاكات بها. وقد أبرزت تلك الأحداث عمق الانقسامات بين الفاعلين السياسيين والدينيين والعسكريين في السويداء، بين مواقف متشددة تجاه الحكومة الانتقالية، متجاوزة خطاب الاحتجاج إلى مرحلة الصدام السياسي المباشر، وأخرى تحاول التوافق مع الحكومة، فبعد تعرّض الرتل القادم من السويداء لهجوم في الكسوة، وقتل عدد من عناصره، ظهر موقفان رئيسان هناك:
- موقف المجلس العسكري المشكّل حديثًا في السويداء، وهو يضم ضباطًا منشقين مثل طارق الشوفي، حيث أعلن دعمه الكامل لمطالب الحكم الفيدرالي، ورفض تسليم السلاح أو انتشار الأمن العام في المحافظة دون ضمانات دولية، وقد دعم حزب اللواء السوري وتيار سورية الفدرالية هذا الموقف، وأعلنا تضامنهما مع الرافضين لاتفاقات التهدئة.
- فصائل “رجال الكرامة” و”أحرار الجبل”، إذ أعلنا دعمهما الاتفاق الأمني، بشرط أن تكون عناصر الأمن العام من أبناء المحافظة الذين ليس لهم سوابق جنائية.


في بُعد رمزي لافت، التأم لقاء جمع مشايخ العقل: حكمت الهجري، حمود الحناوي، ويوسف الجربوع وغيرهم، في الثالث من أيار/ مايو 2025[1]، وانتهى بإصدار بيان يُعدّ أرضية تفاوض أولية غير معلنة، تمثلت في رفض أي عملية نزع سلاح داخل المحافظة، ما لم تُرفق بخطة تنفيذية واضحة، والتشديد على ضرورة أن يكون عناصر الأمن العام من أبناء السويداء حصرًا، مع مطالبة صريحة بضمانات تحول دون عسكرة الخلاف السياسي، وضرورة إطلاق حوار جاد وموسع مع العاصمة.
وترافق هذا مع انتشار أمني في محيط السويداء، خصوصًا في مناطق اللجاة ومدخل أوتوستراد دمشق-السويداء، في إشارة إلى أن الحكومة لا تزال تعتبر أن أي تصعيد من داخل المحافظة يجب أن يُعالج بتوازن بين الحوار والردع.
ثم حدث اتفاق بين ممثلي الحكومة السورية الانتقالية وممثلي السويداء على 5 بنود، من ضمنها تفعيل قوى الأمن الداخلي من أفراد سلك الأمن الداخلي سابقًا، وتفعيل الضابطة العدلية من كوادر أبناء المحافظة حصرًا، ووقف إطلاق النار فورًا، وغيرها، وبدأ تنفيذ الاتفاق وعاد الهدوء، وبموجبه سيتكون الأمن العام من أبناء السويداء فقط، تحت اسم شرطة، وبلباس يختلف عن لباس الأمن العام.
باختصار، مثّلت السويداء في هذه الأحداث ساحة اختبار حقيقية لقدرة الحكومة الانتقالية على التعامل مع التعددية الداخلية، والاحتواء السياسي، وضبط التسلّح خارج المؤسسة العسكرية، كما كشفت الأحداث أن الانقسام داخل السويداء لم يعد دينيًا أو سياسيًا فقط، بل تحوّل إلى تداخل مع قوى إقليمية، سواء عبر الدعم (كما في حالة إسرائيل)، أو من خلال تأطير مطالب الحكم الذاتي وفق أجندات غير سورية.
- الدور الإسرائيلي
مثّل التدخل الإسرائيلي الأخير نقطة تحوّل بارزة في مشهد التوتر جنوب سورية، إذ لم تكتفِ إسرائيل بالمراقبة أو الضغط السياسي، بل نفّذت ضربات جوية استهدفت محيط أشرفية صحنايا ومواقع أخرى، في خطوة عكست توجهها نحو لعب دور “الحامي الطائفي” في الساحة السورية، هذا السلوك الاستثنائي كرّس سابقة جديدة في نمط التدخل الإسرائيلي، اتسمت بالصراحة والعلنية، تحت ذريعة حماية أبناء الطائفة الدرزية، ما يؤشر إلى سعي واضح لتثبيت حضورها كطرف مؤثر في معادلات الجنوب السوري بعد سقوط النظام السابق.
وأعلنت رسميًا أن الضربات كانت “تحذيرية”، وجاءت لمنع ما وصفته بـ “مجزرة محتملة” ضدّ أبناء الطائفة الدرزية، الذين تعرضوا لهجمات من قبل ما سمتهم “مجموعات متطرفة”، كما شملت الغارات ضربة صاروخية قرب القصر الجمهوري في دمشق، بعد أقل من 24 ساعة على توقيع اتفاق تهدئة بين الحكومة وممثلي الطائفة.
يحمل هذا التحوّل العديدَ من الدلالات، حيث أعلنت إسرائيل تبنّيها سياسة “حماية الأقليات” في سورية، وهي تربط تدخلها الجوي بمبررات طائفية، وظهرت تصريحات للشيخ موفق طريف (زعيم الدروز في إسرائيل)، شكر فيها رئيسَ الوزراء الإسرائيلي على “تدخلّه لإنقاذ دروز سورية”. ويأتي هذا التبني لعناوين الحماية الطائفية في ظلّ سياق داخلي إسرائيلي مشحون بسبب حرب غزة، ومحاولة نتنياهو حشد دعم الدروز داخل إسرائيل، وإظهار التزامهم بحماية إخوتهم في الخارج. وهو رسالة سياسية للحكومة الانتقالية السورية، حيث إن ضرب الموقع القريب من القصر الجمهوري لم يكن مجرّد تحذير عسكري، بل حمل رسالة سياسية رمزية، مفادها أن إسرائيل لا تعترف بالشرعية الكاملة للحكومة الانتقالية، وأن أيّ مسار تسوية لا يمرّ عبر مصالحها، أو لا يأخذ أمن حدودها بعين الاعتبار، سيبقى عرضة للخرق، وهذا ينسجم مع نهج “إدارة الفوضى” التي تبنّتها إسرائيل في الجنوب السوري منذ عام 2018، مع بعض الاختلاف حاليًا.
وتكمن خطورة هذا النموذج في مساسه بسيادة الدولة السورية، وفي قابليته للتكرار على مكونات أخرى، الأمر الذي ينذر بتفكك ما تبقى من العقد الاجتماعي السوري، ويفتح الباب أمام تدخلات خارجية جديدة تحت ذرائع “إنسانية” مشروطة، مما يكرس أشكالًا جديدة من الوصاية والانقسام.
وبالرغم من سعي إسرائيل لتقديم نفسها كجهة راعية للطائفة الدرزية، فإن معظم أبناء الطائفة الدرزية في السويداء وغيرها قابلوا هذا الطرح بالرفض، مشددين على انتمائهم للدولة السورية، ورفضهم القاطع لأي تدخل خارجي، وقد خرجت تظاهرات احتجاجية في مناطق مختلفة، استنكرت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، مؤكدين أن حماية الدروز هي من صميم مسؤوليات الدولة السورية دون غيرها.
- موقف الحكومة السورية الانتقالية
مثّلت أحداث جرمانا وأشرفية صحنايا والسويداء اختبارًا للحكومة السورية الانتقالية، بعد أشهر من سقوط نظام الأسد، فهي لم تكن مجرد أزمة أمنية محدودة، بل فجّرت قضايا تتعلق بـقدرة الحكومة على فرض الأمن، وكفاءة مؤسساتها في استيعاب المكونات المختلفة، ومدى قابليتها لتقديم نموذج بديل للدولة التي ورثت عنها ملفات عديدة.
وأصدرت وزارة الداخلية السورية بيانًا أكّدت فيه أن التسجيل الصوتي المتداول الذي نُسِب إلى أحد أبناء الطائفة الدرزية هو تسجيل ‘”مزوّر، لا أساس له من الصحة”، إلا أن صياغة البيان أثارت بعض اللبس، خصوصًا في الجزء الذي رحّب بما وُصف بـ “فزعة المسلمين للذود عن نبيهم”، ما جعل البعض يراه بمثابة تفهّم ضمني لما جرى، رغم النفي الرسمي لوجود إساءة فعلية، وقد أسهم هذا التناقض في إثارة تساؤلات محلية حول الرسائل المتباينة التي حملها الخطاب الرسمي، ومدى انسجامه مع دعوات التهدئة التي صدرت لاحقًا.
تعاملت الحكومة مع الموقف بمقاربة مزدوجة، جمعت بين الاحتواء السياسي والانتشار الأمني دون الانجرار نحو حلول عسكرية شاملة، وقد تمثل ذلك في التهدئة الفورية وبناء القنوات، حيث أرسلت الحكومة وفودًا رسمية إلى المناطق المتوترة، برفقة مسؤولي الأمن العام، وعقدت لقاءات مع مشايخ العقل ووجهاء محليين، ونتج عن هذه اللقاءات اتفاقات تهدئة، وانتشار قوات الأمن العام في بعض المناطق.
وطرحت الحكومة خيار دمج الراغبين من أبناء تلك المناطق في صفوف الأمن العام، وفتح باب التطويع، كخطوة تهدف إلى إعادة الشرعية المجتمعية لأجهزة الدولة، كما طُرحت آلية لضبط السلاح، تقوم على استبعاد كل من لديه سجل جنائي أو من تورّط في تجارة المخدرات من الانضمام إلى الأجهزة الرسمية. وامتنع الخطاب الرسمي للحكومة الانتقالية عن توصيف الأحداث بوصفها “صدامًا طائفيًا”، وتم التشديد على أن المشكلة أمنية بحتة، تسببت بها “مجموعات متفلّتة”، وهذا الخطاب كان محاولة واضحة لاحتواء الطابع الطائفي للأحداث، ومنع تصديره إلى مناطق أخرى. وعلى الرغم من هذه الخطوات الإيجابية، فقد كشفت الأحداث محدودية السيطرة الأمنية في مناطق ريف دمشق، وغياب مظلة قانونية موحدة يمكنها احتواء مطالب التيارات المحلية بطريقة مؤسسية.
ومثّلت هذه الأحداث فرصة للسلطات الجديدة في دمشق لتعزيز حضورها الأمني والإداري في مناطق سكن السوريين الدروز، وقد تم التوصل إلى اتفاقات تقضي بانتشار قوات الأمن العام في مناطق، مثل جرمانا وأشرفية صحنايا، مع اشتراط أن يكون معظم العناصر من أبناء تلك المناطق، ما سمح للحكومة باستعادة بعض حضورها الرسمي، دون الدخول في صدام مباشر مع الفصائل المحلية.
وعلى الرغم من خطورة الأحداث وما خلفته من قتلى وجرحى في صفوف المدنيين والعسكريين، لم تُعلن الحكومة السورية الانتقالية تشكيل لجنة تحقيق رسمية، لتوضيح ما جرى في كل من جرمانا وأشرفية صحنايا، وتحديد المهاجمين للأمن العام والمدنيين بهما، الأمر الذي أثار استغرابًا لدى العديد من الفاعلين المحليين، ويُعدّ غياب مثل هذه اللجنة فرصةً ضائعة لتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمعات المتضررة، ولفرض رواية مؤسساتية واضحة حول ما جرى، بعيدًا عن التأويلات والانفعالات.
وتُظهر بعض المؤشرات أن التصعيد الأخير لم يكن مجرد نتيجة لتوترات محلية أو أخطاء في المعالجة الأمنية، وأنه ربما يحمل أبعادًا سياسية داخلية أيضًا، فقد فسّر البعض ما جرى على أنه محاولة لإحراج القيادة الجديدة في دمشق، وعلى رأسها الرئيس أحمد الشرع، الذي تبنّى منذ تسلمه السلطة نهجًا مرنًا في التعامل مع المكوّنات السورية، وأرسل إشارات انفتاح تجاه المجتمع الدولي. وقد يكون هذا النهج محلّ اعتراض من دوائر أكثر تشددًا داخل أجهزة الدولة أو من بعض الفصائل التي ترى في أي تسوية تهديدًا لمكتسباتها، وفي هذا السياق، جاءت بعض الأحداث لتقوّض خطابه المعتدل، وتدفعه إلى التراجع أو إلى المواجهة، ما يضع الحكومة الانتقالية أمام اختبار مزدوج: أمني وسياسي.
- ردود الفعل الإقليمية والدولية
تباينت المواقف الإقليمية والدولية تجاه هذه الأحداث والتصعيد الإسرائيلي، واتسمت بالتأكيد على ضرورة ضبط النفس وعدم الانخراط في أي مسارات قد تؤدي إلى تأجيج الانقسامات الطائفية، حيث دانت تركيا الضربات الإسرائيلية، واعتبرتها توظيفًا انتهازيًا للتوتر الداخلي في سورية، متهمة تل أبيب بمحاولة تصدير أزمتها في غزة إلى الساحة السورية. ووصفت فرنساطبيعة العنف المسجّل في مناطق التوتر بأنه يهدد بمفاقمة الصدع المجتمعي داخل سورية، وطالبت جميع الأطراف بوقف الأعمال التصعيدية، مشددة على ضرورة التزام الحكومة السورية بمسؤولياتها في الحفاظ على النظام العام ومنع تكرار هذه الأحداث. وعبّرت الأردن عن أهمية الحفاظ على التوازن المجتمعي في المناطق المختلطة، وأكدت ضرورة تعزيز قيم التعايش بين المكونات المختلفة، بما يمنع تحول التوترات الموضعية إلى صراعات مفتوحة، كذلك دانت معظم الدول الإقليمية والعربية هذا التدخل والقصف، وكان هذا الموضوع من القضايا التي طُرحت خلال زيارة الرئيس الشرع لفرنسا ولقائه بالرئيس ماكرون، مما يدل على أهمية هذا الموضوع بالنسبة للدول الغربية.
في السياق ذاته، سارع الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط إلى زيارة دمشق، للقاء الرئيس السوري أحمد الشرع، حيث أكّد دعمه للدولة السورية، ورفضه المطلق لأي “حماية دولية” للطائفة، في رد واضح على طرح الشيخ حكمت الهجري.
كذلك عبّرت الأمم المتحدة عن قلقها حيال تصاعد العنف الطائفي، وأكدت خطورة استهداف المدنيين والأجهزة الأمنية، مع الدعوة إلى اتخاذ تدابير عاجلة لحماية السكان وإعادة الاستقرار إلى المناطق المتأثرة، وأكدت وجوب احترام سيادة سورية وتفادي أي تدخلات خارجية تحت ذرائع إنسانية.
وتُظهر مجمل ردود الفعل الدولية والإقليمية أنها نظرت إليه من زاوية هشاشة الوضع الانتقالي في سورية، وعدّته إحدى نقاط الاختبار لمدى قدرة الحكومة الجديدة على تجنّب الانجرار إلى صراعات داخلية، ومنع استغلال هذه الأحداث في مشاريع خارجية قد تعرقل مسار التسوية السياسية.
ألقت هذه التطورات بظلالها على صورة الحكومة السورية الانتقالية في الأوساط الدولية، إذ أثار تصاعد العنف الطائفي تساؤلات حول مدى قدرتها على بسط الأمن وضمان حماية المكوّنات المجتمعية، وهو ما يُعدّ عنصرًا أساسيًا في تقييم المجتمع الدولي لأيّ سلطة ناشئة في مرحلة ما بعد النزاع، وقد اعتبرت بعض العواصم الأوروبية أن هذه الأحداث، رغم أنها موضعية من حيث الجغرافيا، تُظهر بعض الهشاشة في البنية الإدارية والأمنية الجديدة، مما قد يُبطئ أو يعقّد أي تحركات مستقبلية باتجاه تخفيف العقوبات أو تقديم دعم تنمويّ مباشر، ما لم تُعالج الجذور السياسية والاجتماعية للتوترات بشكل واضح ومؤسسي.
- السيناريوهات المستقبلية
تكشف تطورات أحداث جرمانا وأشرفية صحنايا والسويداء عن أزمة مركّبة، وتطرح تحديات تتعلق بإعادة تعريف العلاقة بين الحكومة والمكونات الاجتماعية، في ظلّ مرحلة انتقالية لم تتبلور فيها بعد قواعد الحوكمة، ولا آليات إدارة التنوّع المحلي. وفي ضوء التفاعلات المعقدة بين الداخل السوري والعوامل الإقليمية، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات محتملة لمسار الأحداث، تختلف في مستوى التصعيد، وحدود الانخراط المحلي والدولي.
- السيناريو الأول: الاحتواء التدريجي وبناء توافقات محلية
يُعدّ هذا السيناريو الأكثر واقعية وانسجامًا مع متطلبات الاستقرار المحلي، حيث يُفترض أن تعتمد الحكومة الانتقالية نهج التهدئة التدريجية، عبر الانخراط في تفاهمات مرنة مع القيادات الدينية والاجتماعية المعتدلة. ويهدف المسار المقترح إلى تفكيك البنية المسلّحة بصورة تدريجية ومنظمة، من خلال تنفيذ اتفاقات محلية تتعلق بتسليم السلاح، وفق جدول زمني واضح، مع ضمان إعادة هيكلة قوى الأمن العام، بما يسمح بدمج أبناء المناطق المتوترة، ويتطلب هذا السيناريو تفعيل آليات حوار دائمة، مع مشايخ العقل والفصائل المحلية، بغية تعزيز الثقة المتبادلة وفتح الطريق نحو استقرار طويل الأمد دون اللجوء إلى العنف أو الإقصاء.
ويرتبط تحقيق هذا السيناريو بفاعلية الضمانات الحكومية، ووجود دعم إقليمي سياسي (خصوصًا من تركيا والأردن ولبنان وبقية الدول الفاعلة في الشأن السوري)، ومحاصرة الخطاب التحريضي الطائفي، عبر شبكات التواصل الموجّهة والمموّلة خارجيًا، كما يرتبط بنجاح السلطات الجديدة في ضبط الفصائل والعناصر المنفلتة، وتفكيك الفصائل ودمجها في الجيش الوطني الجديد.
2- السيناريو الثاني: التصعيد المتدرج نحو مواجهة داخلية شاملة
يبرز هذا السيناريو بوصفه الاحتمال الأكثر خطورة، في حال تعثّر مسار التهدئة بين الحكومة الانتقالية والفصائل المحلية في السويداء، سواء أكان ذلك بسبب فشل الحوار، أو بسبب تراجع السلطات عن تنفيذ تعهداتها المتعلقة بإدماج أبناء المحافظة في الأطر الأمنية، أو بسبب انعدام الشفافية في إعادة هيكلة المؤسسات المحلية، أو بسبب عدم قدرة الحكومة السورية الانتقالية ضبط الفصائل والعناصر المنفلتة. ومن شأن استمرار هذا الجمود السياسي والأمني أن يُمهّد لانزلاق تدريجي نحو صراع داخلي مفتوح، يبدأ باشتباكات محدودة بين أطراف متعارضة، مثل “المجلس العسكري” الرافض للتسوية، وبين فصائل مثل “رجال الكرامة” و”شيوخ الكرامة”. وقد تلجأ الفصائل المتشددة إلى توظيف وسائل ضغط رمزية وميدانية، كإثارة الفوضى أو استهداف رموز ذات دلالة معنوية، وهو ما يشكّل تهديدًا مباشرًا للاستقرار المجتمعي، ويُقوّض في الوقت ذاته صورة الدولة الانتقالية كمرجعية ضامنة للسلام الأهلي.
في هذا السيناريو، تصبح السويداء ساحة صراع مركّب، تُستثمر فيها الفوضى من قبل شبكات تهريب السلاح والمخدرات التي تزدهر في ظل غياب الدولة، مما يُكرّس اقتصادًا مسلحًا موازيًا يصعب تفكيكه لاحقًا.
وهناك سيناريو آخر، لكنه مستبعدٌ حاليًا، وهو التدويل التدريجي للملف الدرزي، ويُعد سيناريو التدويل خطرًا حقيقيًا، إذا تصاعد التدخل الإسرائيلي، أو طُرحت مطالب دولية بحماية خاصة للطائفة السورية الدرزية، ما قد يُستخدم لترويج سردية اضطهاد ديني تبرّر تدخلًا خارجيًا، هذا المسار يُضعف شرعية الحكومة الانتقالية، ويُهدّد احتكارها للقرار الأمني والسياسي، ويفتح المجال لتدخلات دولية وفرض ترتيبات فدرالية غير سورية تحت غطاء حماية الأقليات.
بعد الأحداث الأخيرة والتصعيد الإسرائيلي، ارتفعت احتمالية استغلال الأحداث الداخلية في سورية من طرف الدول الإقليمية، مما يقتضي تبنّي مقاربة متوازنة تجمع بين ضبط الأمن وتعزيز الشراكة المجتمعية، وتقوم على المحاور الآتية:
- إصلاح أمني ومؤسسي:
- فتح باب الانتساب أمام جميع مكونات الشعب السوري، ودمج العناصر المنضبطة من أبناء المناطق ضمن الأمن العام، واستبعاد المتورطين في الجرائم أو تجارة المخدرات.
- حصر السلاح بيد الدولة، عبر نزع تدريجي وتدقيق أمني صارم، مع عدم التمييز بين مجموعة وأخرى.
- التنسيق الأمني مع دول الجوار والدول الفاعلة في الشأن السوري.
- وضع استراتيجية واضحة لبرامج DDR/SSR، تبدأ بوضع هيكلية واضحة للجيش الجديد، وخارطة طريق محددة زمنيًا.
- تعزيز الحوار وبناء الثقة:
- إطلاق حوار محلي تشاركي مع المرجعيات الدينية والسياسية والمجتمعية، لتثبيت التهدئة، وتقديم المرجعيات السياسية والاجتماعية أولًا.
- تشكيل لجان محلية للإشراف على تنفيذ الاتفاقات، ومتابعة ملفات التطويع والنزاع.
- تقديم ضمانات قانونية بعدم الملاحقة لمن لم يرتكب انتهاكات.
- مشاركة حقيقية في السلطة.
- تحصين الخطاب الوطني والإعلامي:
- مواجهة حملات التحريض الطائفي، عبر إصدار بيانات وتصريحات توضح ماهية الأحداث الجارية، وخطوات الحكومة تجاهها.
- تأكيد احترام التعددية ضمن إطار الدولة، دون الوقوع في منطق المحاصصة أو الاستثناء الطائفي.
- الربط بين الأمن والتنمية:
- إطلاق مشاريع تنموية صغيرة في المناطق الخارجة من التوتر، كحافز للاستقرار.
- دعم برامج إعادة الدمج المجتمعي، وتشكيل هيئة للعدالة الانتقالية تضمّ شخصيات سياسية وقانونية، يكون لها نظام أساسي وآلية عمل معلنة وقواعد ملزمة.
- خاتمة
وضعت الأحداث الأخيرة الحكومة السورية الانتقالية أمام اختبارٍ لقياس مدى تمكنّها من السيطرة الأمنية وإدارة التنوع الاجتماعي، في ظل غياب إجماع سياسي، وتدخلات إقليمية ودولية، وكشفت عن حجم الانقسامات داخل مجتمع السويداء، وهي انقسامات لم تعد دينية فقط، بل أصبحت سياسية وعسكرية، وعن تنافس على تمثيل المجتمع المحلي وقيادته، بين اتجاه يدعو إلى الانخراط في مشروع الدولة الجديدة، وآخر يسعى إلى مزيد من الاستقلالية، وعلى الرغم من التوصل إلى اتفاقات فإنها ما تزال هشّة ومعرضة للاختراق.
وتُبرز الأحداث الأخيرة عمق التحديات التي تواجه سورية في المرحلة الانتقالية، حيث لم تكن مجرّد اضطرابات أمنية موضعية، بل كشفت هشاشة التوازنات المجتمعية، وتضارب الأجندات المحلية والإقليمية، وأعادت طرح سؤال جوهري حول قدرة الحكومة الانتقالية الجديدة على احتواء التنوع المجتمعي وضبط التفلت الأمني دون السقوط في فخ الطائفية، أو إعادة إنتاج منطق المحاصصة الذي يقوّض مفهوم الدولة الحديثة.
في المقابل، شكّل التدخل الإسرائيلي سابقة خطيرة، لا في طبيعته العسكرية فحسب، بل في تبنيه العلني لخطاب الحماية الطائفية، وهو ما ينذر بتحويل مسألة الأقليات في سورية، إلى أداة تدويل واستثمار سياسي دائم، وتكمن خطورة هذا التدخل في كونه قد يشكّل نموذجًا قابلًا للتكرار تجاه مكونات أخرى في المجتمع السوري، كالمسيحيين أو الأكراد أو العلويين، وهو ما يُقوّض بشكل مباشر مبدأ السيادة الوطنية، ويهدّد وحدة القرار العسكري والأمني للدولة.
ومما زاد المشهد تعقيدًا أن جزءًا من التصعيد الطائفي الذي شهدته المناطق المتوترة كان مدفوعًا بحملات إعلامية، تحركها حسابات وهمية مجهولة التمويل، تعمل على تغذية الانقسام والكراهية، في إطار ما يمكن وصفه بـ “حرب معلومات موجهة”، تستهدف إضعاف مسار الانتقال السياسي وتفجير المجتمع من الداخل.
في نهاية المطاف، لا يتمثل التحدي الأساسي في احتواء الأزمات المتفجرة فحسب، بل في القدرة على تحويل التسويات المؤقتة إلى مسارات مستدامة، تقوم على شراكة محلية حقيقية، وعدالة مؤسساتية، وسيادة دولة موحدة، ويتطلب ذلك تجنّب الوقوع في فخ المحاصصة الطائفية أو أشكال الوصاية المبطّنة التي تعوق بناء عقد وطني جامع.
وعلى الرغم من نجاح الجهود المباشرة في احتواء الأزمة الحالية، فإن خطر تجدد العنف الطائفي لا يزال مرتفعًا بصورة مقلقة، في ظل غياب معالجات عميقة لجذور التوترات الكامنة، ومما يُفاقم من هشاشة الوضع أن السلطات الانتقالية لم تطوّر حتى الآن آليات فعّالة للإنذار المبكر بشأن التهديدات الطائفية، فضلًا عن غياب استجابات سريعة تحول دون تصاعد العنف وتحمي المدنيين من آثاره الكارثية.
تكشف هذه الأحداث هشاشة الوضع، وصعوبة بناء نظام سياسي قادر على استيعاب التنوّع وإداراته، من دون الوقوع في فخ الطائفية أو الفوضى، وإن النجاح في احتواء التوترات يتطلب أكثر من مجرد اتفاقات أمنية، إذ يتطلب مشروع دولة يتأسس على الشراكة والعدالة والوضوح المؤسسي، بعيدًا عن منطق المحاصصة أو الإقصاء.
[1] اتفاق السويداء… خطوة نحو الاستقرار أم ترتيب أمني هش؟، العربي الجديد، 04 أيار/ مايو 2025، شوهد في 5 أيار/ مايو 2025 https://bit.ly/44p4zfg