هل تتسع الشريعة الإسلامية لحيادية الدولة؟

تنويه:
كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “حيادية الدولة تجاه العقائد الدينية للسوريين”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.
رئيس التحرير
في خضمّ الجدل القائم حول العلاقة بين الإسلام والديمقراطية، برزت مسألة “حيادية الدولة تجاه عقائد المواطنين”، بوصفها إحدى القضايا المحورية التي يتوقف عليها هذا التوافق. وتُعرَّف الديمقراطية الحديثة عادةً بأنها نظام سياسي يضمن حرية التعبير والاعتقاد، ويفصل بين الدين والدولة، بما يضمن أن تبقى الأخيرة على مسافة متساوية من جميع مكونات المجتمع العقائدية. غير أن هذا التصوّر يصطدم، في أذهان كثيرين، مع طبيعة النظام السياسي في الإسلام، الذي يتداخل فيه الديني والسياسي في كثير من المراحل والنصوص. وقد أدى هذا الاصطدام إلى انقسام الباحثين إلى اتجاهين رئيسين: الأول يرى أن الإسلام بطبيعته لا يتوافق مع الدولة الديمقراطية المحايدة، والثاني يرى أن مثل هذا التوافق ممكن، بل هو ضروري، إذا ما أُعيد تأويل التراث الإسلامي في ضوء مقاصده الأخلاقية والإنسانية، وتطورات الفكر السياسي الحديث.
من وجهة نظر الاتجاه الأول، فإن الإسلام لا يتضمن، لا في نصوصه التأسيسية ولا في تاريخه السياسي، ما يشير إلى وجود فصل بين السلطتين الدينية والسياسية. بل على العكس، يُفهم من مجمل التراث الإسلامي أن الحُكم لا ينفصل عن الدين، وأن الشريعة -بوصفها القانون الإلهي- يجب أن تحكم جميع جوانب الحياة، ومن ضمن ذلك إدارة الدولة وسنّ القوانين. ويعبّر المؤرخ البريطاني برنارد لويس عن هذه الرؤية في كتابه “لغة الإسلام السياسي”[1]، حين يشير إلى أن الحد الفاصل بين المؤسسة الدينية والدولة، الذي تبلور في التجربة المسيحية الغربية، لا وجود له في الإسلام. بل إن كل محاولة لإقامة سلطة تشريعية أو سياسية مستقلة عن الشريعة تُعدّ خيانة للإسلام ومروقًا عنه. ويستند لويس، وغيره من أنصار هذا الطرح، إلى ما يعدّونه مقولات مركزية في الخطاب الإسلامي، مثل: “الإسلام دين ودولة”؛ الحاكمية لله”؛ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”.
وتُستخدم هذه المقولات للاستدلال على أن الإسلام لا يعترف بمرجعية تشريعية سوى الشريعة، ولا بسيادة سوى سيادة الله، وهو ما يتناقض مع مبدأ السيادة الشعبية الذي تقوم عليه الديمقراطية الليبرالية.
ويرتبط بذلك أيضًا طرح مفكرين مثل برتران بادي في كتابه، الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وبلاد الإسلام[2]، حيث تثار فكرة الحاكمية لله، وتتمثل في أنه لا وجود في التراث الإسلامي لمفهوم سيادة الشعب، لأن السيادة هي الله وحده في النهاية؛ ومن ثم فإن أي سلطة علمانية محرومة من الشرعية والحُجيّة، ويمكن التشكيك بها من مسلمين آخرين يتمتعون بنوع ما من السلطة الدينية. وفي هذا السياق أيضًا، يربط بعض الباحثين بين الإسلام والأصولية، بوصفها نزعة دينية متشددة ترفض التعدد وتتعامل مع الدين كحقيقة مطلقة غير قابلة للنقاش. وقد ذهب صموئيل هنتنغتون[3] إلى أبعد من ذلك، في كتابه “صراع الحضارات“، حيث قال إن “للإسلام حدودًا دامية”، في إشارة إلى كثرة النزاعات التي يشهدها العالم الإسلامي، والتي تأخذ طابعًا دينيًا أو مذهبيًا في كثير من الأحيان. ويُفهم من هذا أن الإسلام، بطبيعته، أقل قابلية من غيره من الديانات للتعايش الديمقراطي، وأكثر عرضة للصراع والانقسام.
غير أنّ هذا الطرح يلقى معارضة متزايدة من مفكّرين وكتّاب، يرون أن القول بالجوهر الثابت لكلّ دينٍ إما أن يكون مواتيًا للديمقراطية أو غير مواتٍ، حسب صاحب “صدام الحضارات”، والقول بعدم التوافق بين الإسلام والديمقراطية إنما يستند إلى قراءة ضيقة وجامدة للتراث الديني بشكل عام والإسلامي خاصة. ويتجاهل تعددية هذا التراث، ويغفل عن تحولات الواقع السياسي والثقافي للمجتمعات المسلمة. صاموئيل هنتنغتون نفسه عاد وغيّر رأيه في كتابه “الموجة الثالثة”[4]، ولم يعد مقتنعًا بأن تقاليد كل دين هي معطى ثابت، وإما أن تكون مواتية للديموقراطية أو غير مواتية. وبدا أكثر انفتاحًا على إمكانية حدوث تغيير داخل التقاليد الدينية. وان جاء هذا التغير نتيجة تقييمه لدور الكنيسة الكاثوليكية في عملية التحول الديمقراطي الذي حدث في جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية. تلك الكنيسة التي كانت متهمة سابقًا بمحاباة ومساندة دكتاتوريات تلك البلدان.
والإسلام، مثله مثل غيره من الديانات الكبرى، ليس كيانًا جامدًا ذا جوهر ثابت، بل هو منظومة عقائدية وأخلاقية غنية بالتأويلات والتفسيرات التي تختلف باختلاف الزمان والمكان والسياق. ويشير هؤلاء المفكّرون والكتاب إلى أن إغلاق باب الاجتهاد بعد القرنين الأول والثاني الهجريين، لحساب التقليد المذهبي، قد ساهم في تكريس فهم ضيق ومتزمت للشريعة، يعارض التعددية ويهمّش الرأي المخالف. وهو ما أدى إلى تضخيم صوت الفقه السلطاني، الذي يكرّس الاستبداد باسم الدين، ويقدّم الطاعة للحاكم كواجب ديني، وإنْ كان هذا الحاكم لا يحكم بالعدل أو لا يمثل الأمة. ويؤكد هؤلاء المفكّرون أنه نتيجة لهذا، أولت التفاسير السائدة القرآن المدني أهمية أكبر من القرآن المكي، الذي هو في عمومه أكثر تسامحًا وتأييدًا للتعددية. وتتجلى مشكلة التفسير المحافظ في قضايا متعددة ربما أبرزها حقوق المرأة، وعمليات التحول الديمقراطي[5] . إلا أن هناك مفارقة جديرة بالاهتمام، وفقًا لـ سانفورد لاكوف، في كتابه حقيقة استثنائية المسلمين، وتكمن في أن “الإسلاميين اليوم هم من يستندون إلى دعوى الاجتهاد -التي أحياها المصلحون السلفيون في القرن التاسع عشر- من أجل تقويض حجية رؤية رجال الدين التقليديين وتسويق رؤي رجال الدين التقليديين، وتسويغ فتاوى الإسلاميين التي تشرع الجهاد ضدّ الكفار والمرتدين”[6]. وهذا يعكس، وفقًا لهؤلاء، حركية داخلية في الفكر الإسلامي، تتيح إعادة النظر في المفاهيم السياسية الكبرى، ومنها مفهوم “الدولة الإسلامية”، و”سيادة الأمة”، و”الشرعية”، وغيرها من المفاهيم التي لا تزال موضوع نقاش في الساحة الفكرية الإسلامية.[7]
على المستوى العملي، تُطرح أيضًا حجة تستند إلى الواقع الاجتماعي والسياسي للمسلمين في العالم، لا سيما في الدول ذات الأغلبية المسلمة التي عرفت تحولًا ديمقراطيًا، ولو جزئيًا. فوفقًا لعالم السياسة الأميركي ألفريد ستيبان، فإن قرابة نصف المسلمين في العالم يعيشون اليوم في دول ديمقراطية أو شبه ديمقراطية، أو في ظل نظم سياسية تعتمد آليات ديمقراطية في تداول السلطة، مثل الانتخابات، وتعدد الأحزاب، وحرية التعبير.
وهذا المعطى، برأي ستيبان، يُضعِف الحجة القائلة بعدم قابلية الإسلام للديمقراطية، ويؤكد أن التعدد داخل الدين الواحد يسمح بتفسيرات وممارسات متباينة تجاه الحكم والسياسة. بل يقترح ستيبان مفهوم “تعدد المشارب في الديانة الواحدة“، في مقابل الأطروحة القائلة بأن لكل دين جوهرًا ثابتًا لا يتغير.[8]
ووفقًا لهذا التصور، فإن الإسلام، كغيره من الأديان، يحتوي على عناصر يمكن أن تُستخدم لتبرير الحكم الاستبدادي، كما يحتوي على عناصر أخرى تدعو إلى العدل والمساواة والشورى، وتدعم بناء دولة مدنية تضمن الحقوق لجميع المواطنين.
وإذا كان جوهر الديمقراطية الليبرالية يقوم على حيادية الدولة تجاه عقائد المواطنين، فإن هذا المبدأ يجد له صدًى واضحًا في عددٍ من النصوص القرآنية والاجتهادات الفقهية في الإسلام، التي يمكن البناء عليها لإعادة تأصيل الفكرة من داخل المرجعية الإسلامية. فالقرآن الكريم يقرّر في آية صريحة أنْ {لا إكراه في الدين}. وهي قاعدة عامة تفيد بأن الإيمان لا يكون إلا عن اقتناع، وأن الإكراه على العقيدة مرفوضٌ من حيث المبدأ. بل إن هذه الآية تقوّض كل محاولات فرض الدين أو المذهب أو الرؤية الدينية بالقوة، سواء من قبل الدولة أو من قبل فئة تدّعي احتكار الحقيقة الدينية. ويُفهم من هذا أن الدولة الإسلامية، إذا أرادت أن تظل أمينة لمقاصد الإسلام، فينبغي لها أن تضمن حرية الاعتقاد لجميع مواطنيها، لا أن تتبنى مذهبًا واحدًا أو رؤية دينية واحدة.
وثمة آية أخرى تؤكد هذا المعنى، تقول: {لكم دينكم ولي دين}. وهي عبارة قرآنية واضحة في احترام الاختلاف الديني، حتى في حالة التحدي العقدي، بين النبي وكفار قريش. ويُفهم منها أن الإسلام يعترف بالتعددية الدينية، ويقرّ بأن للآخرين الحق في اختيار معتقدهم دون إكراه أو تمييز.
وهذا المبدأ، إذا عُمل به في سياق الدولة الحديثة، يُفضي إلى ضرورة حيادية الدولة، وعدم تدخلها في الشؤون العقائدية للمواطنين، والاكتفاء بدورها في تنظيم الحياة المشتركة وفق مبادئ العدل والمساواة.
وإلى جانب النصوص القرآنية، يقدّم التاريخ الإسلامي نموذجًا عمليًا لهذا التعايش، يتمثل في “صحيفة المدينة“ أو “دستور المدينة“ الذي وضعه النبي محمد، بعد الهجرة إلى يثرب.[9] فقد تضمّنت هذه الوثيقة الاعتراف بجماعات دينية متعددة، منها اليهود، ومنحتهم حق المواطنة الكاملة، وحرية ممارسة شعائرهم، وحددت العلاقة بينهم وبين المسلمين، بناءً على عقد اجتماعي ينظم الحقوق والواجبات. ويُعدّ هذا الدستور أحد أوائل النماذج السياسية التي أقرت بمبدأ المواطنة على أساس الانتماء المدني لا العقائدي، وهو ما يمكن اعتباره سابقة تاريخية لمبدأ حيادية الدولة تجاه الأديان.
وكذلك، لم يكن الفقه الإسلامي الكلاسيكي بعيدًا عن هذا التصور، إذ أقرّ الفقهاء حقوق أهل الذمة، وحرّموا الاعتداء على معابدهم أو إكراههم على الإسلام، بل ذهب بعضهم إلى أن بيت مال المسلمين يتحمّل نفقة فقرائهم. وعلى الرغم من أن نظام “الذمّة” لا يُعَدّ مقبولًا في الدولة الحديثة القائمة على المواطنة المتساوية، فإن تلك الأحكام تدلّ على وجود قابلية داخل الفقه الإسلامي للتعامل مع التعدد الديني باحترام وإنصاف، وهو ما يمكن أن يُعاد تأصيله ضمن إطار دستوري حديث، يضمن المساواة دون تمييز ديني أو مذهبي.
ويضاف إلى ما سبق أن فقه “مقاصد الشريعة[10]“، الذي بلوره الإمام الشاطبي، في القرن الثامن الهجري، يقدّم رؤية أخلاقية وإنسانية للشريعة، تقوم على حفظ الضرورات الخمس: الدين، النفس، العقل، النسل، المال. وهذه المقاصد، بوصفها غايات عليا للتشريع، لا يمكن تحقيقها في ظلّ دولة منحازة عقائديًا، تهمّش فئاتٍ من مواطنيها أو تُقصيهم بسبب معتقداتهم. بل إن حفظ الدين، بوصفه أحد هذه المقاصد، لا يعني فرض دين معين، بل توفير المناخ الذي يُتاح فيه للناس أن يعبّروا عن إيمانهم بحرية، ويختاروا ما يشاؤون دون إكراه. ومن ثم، تصبح الدولة المحايدة دينيًا هي الإطار الأنسب لتحقيق تلك المقاصد، لأنها تضمن العدالة لجميع المواطنين، وتمنع تسييس الدين أو توظيفه في الصراعات السياسية. وقد كان الإمام الشاطبي أحد أبرز العلماء الذين تناولوا مقاصد الشريعة بالدراسة والتحليل، إذ أكَّد أن معرفة المقاصد ضرورية للفقيه الذي يريد فهم النصوص الشرعية في سياقاتها المختلفة، وأوضح أن المقاصد تُعَدُّ معيارًا أساسيًا لقياس مدى انسجام الأحكام مع الواقع المُتغير، بما يضمن استمرارية الشريعة في تحقيق العدالة والمصلحة[11].
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن مبدأ حيادية الدولة تجاه عقائد المواطنين ليس خروجًا عن الإسلام، ولا تنازلًا عن هويّة الأغلبية، بل هو تجسيد لأحد المقاصد الكبرى للشريعة، وهو العدل. وهو ضرورة في زمنٍ تتعدّد فيه المذاهب والاتجاهات داخل الأمة الإسلامية ذاتها، فضلًا عن وجود أقليات دينية تحتاج إلى حماية حقوقها ضمن إطار وطني جامع.
فالدولة المحايدة لا تنظر الى الأديان من حيث قيمتها العقدية، بل تساوي بين الأفراد في حقوقهم الدستورية، وتمنع التمييز والتميّز باسم الدين. ومن ثم، فإن الدفاع عن حيادية الدولة لا ينبغي أن يُفهم بوصفه استيرادًا لنموذج غربي، بل بوصفه تأصيلًا لمبادئ إسلامية أصيلة، تعود إلى جذور الوحي والسنّة النبوية، وتتجلى في التجربة التاريخية والفقهية الإسلامية.
[1]برنارد لويس. لغة الإسلام السياسي، ترجمة عبد الكريم محفوض، تقديم الدكتور طيب تيزيني، دمشق، دار جفرا للدراسات والنشر.
[2] برتران بادي. الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وبلاد الإسلام، مدارات للأبحاث والنشر، 1970
[3] صموئيل هنتنغتون. صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشايب، دار سطور 1999
[4] صموئيل هنتنغتون. الموجة الثالثة: التحول الديموقراطي في أواخر القرن العشرين، ترجمة عبد الوهاب علوب، مركز ابن خلدون، 1993
[5]لوقا لوزانو. أقنعة الدين السياسية: الدين والأحزاب السياسية في الديموقراطيات المعاصرة، ترجمة السيد عمر، مركز نهوض للأبحاث والدراسات، بيروت 2022
[6] المصدر السابق
[7] المصدر السابق.
[8] المصدر السابق.
[9] المصدر السابق.
[10]نورة بو حناش. مقاصد الشريعة عند الشاطبي وتأصيل الأخلاق في الفكر العربي الإسلامي، جامعة منتوري قسنطينة، 2007.
[11] المصدر السابق.