حيادية الدولة ودينيتها – مركز حرمون للدراسات المعاصرة

تنويه:
كُتِب هذا المقال بطلب من إدارة برنامج “حوارات السوريين”، وبمناسبة مشاركة الكاتب في جلسة حوارية لمناقشة موضوع “حيادية الدولة تجاه العقائد الدينية للسوريين”. وهو يعبّر عن رأي الكاتب وموقفه من الموضوع.
رئيس التحرير
إن مطلب حيادية الدولة مطلب لا سبيل للالتفاف حوله، لدى كل من يبحث عن دولة مواطنة تحقق العدالة للجميع، وإن من نافل القول أن الدولة الدينية دولة لا تحقق الحيادية؛ لأنها دولة تفرض على مواطنيها رؤية شاملة للخير مستمدة من معتقد ديني.
وإن تعبير الدولة الدينية لا يعني بالضرورة دولة كهنوت، بالشكل الذي قامت عليه الدولة إبان سيطرة الكنيسة على الدولة والمجتمع وشغلت الحيزين العام والخاص، بل إن الدولة الثيوقراطية تلك ليست إلا نوعًا لجنس الدولة الدينية التي لا تستنفد معناها الدولة الثيوقراطية.
فيمكن للدولة أن تكون دينية من دون أن تطابق الدولة التي يتوسط فيها بين الفرد ورموزه الدينية إكليروس، فالدولة تكون دينية إذا عدّ صاحب السلطة فيها نفسه ممثلًا لمبدأ مفارق متسام، وقد كلّف من قبله بالعناية بشعبه.
وبتفكيك هذا التعريف للدولة الدينية، نجد أن عناصره كلها غير طبيعية؛ فهوية صاحب السلطة، والمبدأ المفارق، وواقعة التمثيل، كلها ليست معطيات طبيعية، كما أن تركيبها ليس معطًى طبيعيًا، ولأنها معطيات مصنوعة، فهي تحتاج إلى أيديولوجيا تسوغها.
فعلى الرغم من ادعاء جلّ تيارات الإسلام السياسي أن دولتهم المنشودة ليست دولة دينية، بمعنى أنها ليست مطابقة للدولة الثيوقراطية ، فإن طرحهم الأساسي المتمثل في أن كلام الله هو المرجع المطلق في الأمور الدينية والدنيوية ليس إلا شكلًا من أشكال فكرة “الحاكمية لله”، ولا ينفع هنا التخلي الشكلي عن هذه الفكرة التي اخترعها أبو الأعلى المودودي في سياق سياسي واجتماعي معين، ثم عمد سيّد قطب إلى استيرادها ومحاولة استنباتها في سياق آخر مختلف؛ لأن الطرح السابق لا ينفصل عن فهم جماعةٍ ما لهذا الكلام المعد مطلقًا، وهو فهم مشروط بطبيعة الحال بظروف هذه الجماعة وبمصالحها، مما يستلزم فرض هذه الجماعة -في حال تقلّدت مقاليد السلطة- لهذا الفهم على باقي الجماعات، وهي النتيجة عينها التي تقتضيها فكرة الحاكمية لله، والمضمون نفسه الذي تنطوي عليه دولة الكهنوت.
هذه الأيديولوجيا التي يحتاجها المركب الصناعي لا بد أن تكون أيديولوجيا إطلاقية شمولية؛ لأنها توحد بين النظام السياسي وبين رسالة الله، ويعدّ حاملوها أنفسهم مسؤولين عن تشكيل شخصية الإنسان؛ الأمر الكفيل بمسخ استقلالية الفرد، وحرمانه من حرية الاختيار بين بدائل مختلفة للخير، وتحويله إلى متلقٍ سلبيّ لما تفرضه الجماعة، صاحبة هذه الأيديولوجيا، من قيم تفرغ الحرية الميتافيزيقية من مضمونها؛ لأنها تلغي المكونين الأساسيين الكفيلين بتحويلها من المجرد إلى الواقعي، وهما الحرية السياسية والاجتماعية، مما يعني سلب استقلاليته. كما أنها تلغي الحدود بين الخاص والعام؛ لأنها بمحاولتها أسلمة جميع جوانب الحياة تتدخل في كل شؤونه؛ لأن القائمين على هذه الدولة يعتقدون أن أسلمة جميع جوانب الحياة هو السبيل الوحيد المفضي إلى تحقيق الخير.
في المقابل، يمكن القول إن الدولة لا تفقد حياديتها إذا تبنت دينًا معينًا بشروط ثلاثة:
- توفير أسباب يمكن الوصول إليها لتبرير تصرفاتها.
- احترام حريات الأفراد الشخصية وعدم انتهاكها.
- ضمان المواطنة المتساوية، وعدم الانتقاص من أي مكون.
ومثال الشرط الأول إذا اختلف اثنان حول حظر الانتحار، لأنّ الحياة هبة من الله، أو لأنّ المقدِم عليه لا يتمتع بالاتزان العقلي؛ فإن التبرير الأول غير قادر على الوصول إلى الجميع، أما الثاني فيمكنه ذلك.
ومثال الشرط الثاني منع تدخل الدولة في قرارات الأفراد المستندة إلى معتقد ديني، فإذا تدخلت الدولة -مثلًا- في حق المرأة في الإجهاض، استنادًا إلى رؤية دينية معينة حول قدسية حياة الجنين، فإنها ستنتهك حق المرأة الشخصي في الإجهاض، وما تقدّمه الدولة من تبرير للمنع يستند إلى مفهوم جدلي لقدسية الحياة.
وكذلك إذا منعت المسلمين من تناول اللحم المذبوح بطريقة حلال، استنادًا الى أن هذه الطريقة تؤذي الحيوان وتسبب له آلامًا، فإنها تكون قد فرضت رؤية معينة تتبناها تمنع المسلم من حريته الفردية، بل إنها تستطيع أن تفرض طريقة المسلم على غير المسلمين، إذا تمكنت باستخدام التكنولوجيا من تطبيق طريقة الذبح من دون التسبب بآلام للحيوان، وأزالت بذلك سبب الاعتراض. إنها بفرضها طريقة الذبح الإسلامية على غير المسلمين بعد إزالة سبب الاعتراض لا تكون منتهكة لقدرة الأفراد على التمتع بحرية أساسية من حرياتهم.
أما الشرط الثالث، فمثاله حظر رموز دينية لأتباع ديانة معينة، بحجة أنها قد تمثل تفريقًا على أساس ديني، ومثالها منع المآذن في بلد أكثريته من المسيحيين، على أساس أن هذه المآذن ليست مقومًا أساسيًا من مقومات الدين الإسلامي، وأن المسلمين في هذا البلد ليسوا ملتزمين التزامًا قويًا بتعاليم دينهم. وهما حجتان واهيتان؛ لأن منع رمز كهذا قد يبعث برسالة إلى مسلمي ذلك البلد بأنهم خارج حدود النسيج الاجتماعي، خصوصًا إذا سمح بعرض رموز دينية للمسيحيين في ذلك البلد.
يمكن للدولة أن تحافظ على حياديتها، مع تبنيها دينًا ليس بوصفه رؤية شاملة للخير مفروضة على الجميع، وإنما بوصفه تقليدًا يمكن فصل قيمه الأخلاقية عن مصدره العقدي المتمثل في نصوص مقدسة، على أن تكون هذه القيم قابلة للوصول إلى الجميع، بمعنى أن الجميع يفهمونها، وإن لم يقتنعوا بها، ومن دون انتهاك للمواطنة المتساوية، ومن دون حرمان أفراد المجتمع من حقهم في الاختيار بين البدائل المتاحة.